سمحت لي الظروف مؤخّرًا أن أحج إلى صيدنايا ومعلولا. تدخل دير العذراء مريم فتشعر أنّه سلّم يصعدك إلى السماء. أمّا في دير القدّيسة تقلا فهناك الصخر الشاهد على صلابة الإيمان.

انطلقنا فجّرًا برفقة مجموعة من الأحباء، فكانت الطريق بحدودها اللبنانية والسوريّة ميّسرة، والإحترام للكهنة مميّز.

قبل أن نبلغ هدفنا في دير صيدنايا، زرنا عددًا من الأماكن الدينيّة المسيحيّة، التي مرّ بها الرسول بولس. كلّ مكان يروي حكايات رسل المسيح. أبواب دمشق القديمة كانت نافذة لنا لنزور البطريركيّات الثلاث في منطقة باب توما، حيث دخلنا كنيسة القدّيس جاورجيوس للسريان الأرثوذكس، ومن ثم كانت لنا وقفة استثنائية ومميزة في البطريركية الأرثوذكسية، حيث الكاتدرائية المريميّة، فكانت محطة لنرفع الصلاة والدعاء، ونتعّرف على إحدى أقدم كنائس دمشق والعالم. ما إن دخلنا من «باب شرقي» باتجاه المدينة القديمة بدمشق، عبر الشارع المستقيم الذي شقّه الرومان منذ أكثر من ألفي عام، استوقفنا أخوة سوريّون أصرّوا على استضافتنا في بيوتهم، بمجرّد معرفتهم أننا من لبنان. تمرّ بعد مسير مئات الأمتار بجوار الكنيسة المريميّة التي شكّلت إحدى الشواهد على تاريخ أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، أي دمشق، وانطلاق التبشير بالمسيحيّة إلى العالم.

جلنا في أنحاء المقر البطريركي الأرثوذكسي، لنحطّ الرحال بعدها في كنيسة نياح العذراء، المعروفة بكنيسة الزيتون، وهي المقر البطريركي لكنيسة الروم الكاثوليك.

لدى وصولنا إلى دير صيدنايا، هرولنا دون تردد لنرفع الإبتهال إلى العذراء مريم، في مقام "الشاغورة"، حيث إيقونة صيدنايا الشهيرة المعروفة بهذا الإسم. ويروي التقليد أنّ القدّيس لوقا هو الذي رسم هذه الإيقونة، التي نُسب إليها العديد من المعجزات في مختلف المراحل الزمنيّة، وهو الذي رسم ثلاث إيقونات عجائبيّة للعذراء. وقد نشأ هذا الإعتقاد في مرحلة حرب الإيقونات التي شهدها القرن الثامن واستمرّت حتّى بدء القرن التاسع.

تكثر في بلدة صيدنايا الأديار والكنائس والمزارات، ويصل عددها إلى الأربعين، إلاّ أنّ الأشهر من بينها جميعًا هو دير السيّدة العذراء، أحد أهمّ مؤسّسات البطريركيّة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. منذ العصور الوسطى، كان الحجّاج في طريقهم إلى الأراضي المقدّسة، يتوقّفون في صيدنايا، للصلاة أمام إيقونة العذراء العجائبيّة وطلب بركتها.

بعد أن رحّبت بنا راهبات الدير، ترّحيبًا مميزًا، وسألونا عن أحوال لبنان واللبنانيين، رفعنا الدعاء معهم والإبتهال من أجل السلام في سوريا ولبنان والعالم أجمع. وأطلعتنا الراهبات عن عجائب الله، بشفاعة العذراء مريم، كيف نجوا من القصف، ومن الحرب. لم ننسَ طبعًا إضاءة شموع في مقام "الشاغورة" على نيّة المرضى والمعذَّبين، قبل أن ننطلق إلى معلولا، التي عانت الأمرّين خلال الحرب، ولم تنتهِ مفاعيلها بعد. آثار الحرب بادية بشكل كبير، إلا أنّ دير القدّيسة تقلا، والكنائس المحيطة بها، عادت تشهد على نِعم الله وبركاته. دير القدّيسة تقلا في معلولا، محجّ يستقطب المؤمنين من سوريا والدول المجاورة، ومن كل الطوائف، كدير صيدنايا.

ثمانية وأربعون ساعة حجّ في كنائس وأديرة دمشق وجوارها، كافية لكي نشكر الله على عظائمه، حيث عادت المقامات الدينية في سوريا، ولا سيما المسيحيّة، قُبلةَ المؤمنين، بعد انقطاع طويل فرضته ظروف الحرب.

سوريا ولبنان يعانيان أزمات متعددة، إلا أنّ ما يميّز هذين الشعبين، هو قوّة الإيمان، وقد لمسته، في كنائس وأديار دمشق، لمس اليد، كما لمسته بالأمس القريب في طرطوس واللاذقيّة، وما نلمسه في لبنان يوميًا. هذه هي إنطاكية العظمى. لم أدخل كنيسة أم ديرًا في هذين اليومين، إلا وكان المؤمنون يأمّونهم بقوة، وبأعداد كبيرة.

نحن على الرجاء أن يقبل اللّه صلوات المؤمنين، في سوريا ولبنان، ويحلّ السلام والأمان والإستقرار المعيشي والإجتماعي، في هذين البلدين، ويعود أبناء سوريا إلى ديارهم. لن نتوقف عن رفع الدعاء إلى الله، بشفاعة مريم العذراء وسائر القدّيسين، أن يرسل نعمه علينا وعلى شعوب هذه المنطقة، وألا يترك أحباءه الكثيرين في شرقنا والعالم أجمع، آمين.