مُنذُ فَجرِ الإنسانِ الأوَّلِ، حين أدرَكَ أنَّهُ قُوَّةٌ عَقلانِيّةٌ تُعَبِّرُ عَن ذاتِها، إشارَةً وَتَصويراً، وَمِن ثَمَّ كَلاماً تَجريدِيَّاً مَكتوباً، و​لبنان​ هو أرضُ إيل: أرضُ الله. هَذِهِ حَقيقَةٌ، لا عَصفٌ تَوَهُميٌّ. واللافِتُ فيها، أنَّ الشَرقَ والغَربَ –وَما إلتقَيا على أمرٍ، وإن فَعَلا عادا فَنَقَضاهُ مَعاً– إلتَقَيا على هَذِهِ الحَقيقَةِ.

وإن ماجَت رَواسي أو غارَت قَوائِم، حينَ الشَرُّ يُداعي الحَقَّ، بَقِيَت حَقيقَةُ لبنان هي الرُكنُ: هو أرضُ الله. لَكِنَّ السؤالَ الأقلَق: هَل "خَلَقَ" لبنان الله، مُفتَتِحاً بِذَلِكَ عُهودَ الإنسانِيَّةِ مَعَ المِعنى، لِيَرفَعها مِن بَراثِنَ التَوَحُّشِ الى تَعاهُدِ الإعجازِ مَعَ الأعجوبَةِ؟.

قَد يُجيبُ سائِلٌ أنَّ الله هو الحدُّ بَينَ المَعلومِ والغامِضِ، فَما لِلبنان؟ وَينهَدُ مَرمِيٌّ في غَيهَبِ النُكرانِ، فَيَقتَصِدَ جازِماً أن لا الله مَوجودٌ و...لا لبنان، لِيَتَبَجَّحَ مُتَرَدِّدٌ بِقناعَةِ أنَّ المَبنى في وَرطَةٍ فلا حاجَةَ بَعدُ لِمعنى، إذ كُلُّ مُعتَقَدٍ آفِلٌ الى إنهيارٍ.

أيَكونُ إذذاكَ لبنان خِدعَةٌ، والله الذي "خَلَقَهُ" مَخدوعاً بِهِ؟ لا بَل أيَكونُ مَصيرُ العَقلِ الكُفرُ بِلبنان بالتَلازُمِ مَعَ الكُفرِ بالله؟.

مِن دونِ لبنان، لا يَنتَصِبُ إستِكراسٌ لِلحَقِّ في أرضِ الأحياءِ. الباطِلُ يَغدو المُنتَصِرَ، والإنخِذالُ حاكِمٌ بالعَدالَةِ، وَكُلُّ مَصيرٍ الى إندِثارٍ. والأدِلَّةُ هائِلَةٌ مِنَ الشَرقِ الى الغَربِ، وأبعَدُ مِنهُما.

مِن ذَلِكَ المُنطَلَقُ.

كِثارُ يَقين الفِداءِ

أجَل! ما تَهَرَّبَ لبنان مِن مُنازَلَةِ الجَهلِ بالمَعرِفَةِ، والظُلمِ بالخَيرِ والبَشاعَةِ بالجَمالِ... والمَوتِ بالفِداءِ. يَقينُهُ أن يَكونَ او... لا يَكونَ. وَهَذا لا نِتاجَ قَلَقِ بُطولَةٍ بَل يَقينُ البُطولَةِ في كِثارِها.

هيَ صورُ أحرَقَت نَفسَها لِكَي لا تَستَسلِمَ لِعُبُودِيَّةِ الإستِعبادِ.

هيَ إليسارُ-المَلِكَةِ أحرَقَت نَفسَها لِكَي لا تَنهَزِمَ أمامَ شَهوَةِ مُتَجَبِّرٍ.

بَل هيَ ذُروَةُ التَضحِيَةِ بالإبنِ البِكرِ لِتَبقى الإنسانِيَّةُ مِقياسَ الحُضورِ... فَلا يَبقى في زَمانِ الأمكِنَةِ إلَّا مَساحِبَ الضَميرِ: دَليلَ الألوهَةِ.

هَذا ما فَهِمَهُ الشَرقُ المُتَعَقدِنُ في غُلوِّ العِقَدِ، وَلا إستَوعَبَهُ الغَربُ المُتَسَقرِطُ في مُماحَكاتِ الغُلوِّ.

وَحدُها المَسيحِيَّةُ، رَفَعَتهُ الى قِمَّةِ قِمَمِ الألوهَةِ: ألّا تَهابَ المَوتَ إن بَلَغتَهُ، فَتُنازِلَهُ بالمَوتِ لِتَهِبَ الحَياةَ... لِلجَميعِ.

وَحدُها المَسيحِيَّةُ جَعَلَت مِن لبنان ناراً مُطَهِّراً.

وَحدُها المَسيحِيَّةُ إعتَرَفَت أنَّ الله، على صورَتِهِ وَمِثالِهِ: صادِقٌ في مَواعيدِهِ. "جِئتُ أشهَدُ لِلحَقِّ"، صَرَخَ الناصِريُّ بِبيلاطُسَ، البَغيِّ بإستِملاكِهِ خَتمَ الحُكمِ بالحَياةِ أو المَوتِ، على ما تَباهى. "وَما الحَقُّ؟" سألَهُ مُخادِعاً بِذُرى الباطِلِ... لَم يَعُد يُجيبُهُ. كانَ هوَ، الحَقُّ، أمامَهُ... وَما أرادَ لِبَصيرَتِهٍ إدراكَهُ.

الى أينَ يُفَرُّ مِن نَظَرِهِ؟ أمسِ واليَومَ وإلى إنقِضاءِ العالَمِ؟

الى أينَ يُفَرُّ مِن لبنان-الضميرِ وَهوَ في ضَمائِرَ مَن يَحكِمونَ عَليهِ سَلَفاً بالصَلبِ، ليَهنأوا بِغِيِّهِمِ أنَّهمُ آلِهَةُ ذَواتِهِم، فَلا حاجَةَ لَهُم بَعدُ لِشَهادَةِ الله؟

أنا ما هَمِّي إذا لبنان "خَلَقَ" الله أو الله "خَلَقَهُ". أوَّلِيَتي أنَّهما صِنوانِ لأوَّلِيَّاتٍ واحِدَةٍ، مُتَّحِدَةٍ، بِشَغَفِ أخذِ أحَدِهِما على عاتِقِ الآخَرِ.

هوَ الإنسانِيَّةُ حينَ الله الألوهَةَ، وَهوَ الألوهَةُ حينَ الله أنسانٌ... وَكِلاهُما، مَعاً، حُرِيَّةٌ واحِدَةٌ، إذ كِلاهُما بُطولَةُ وَفاءِ وَجودٍ، وَوَفاءُ بُطولَةِ جَوهَرٍ.

لبنان-الله شَهادَةُ نَفسِهِ لِنَفسِهِ... وَللآخَرينَ. والله-لبنان شَهادَة نَفسِهِ لِنَفسِهِ... وَللآخَرينَ.

وَحَقيقَتُهُما المُشتَرَكَةُ، ما لأحَدٍ قَدرَةُ طَمسِها في التُرابِ. هي لا تَتوارى عَنهُ، ذا الأحَدُ، وإن وُرِيَ بِتَرَجُّحاتِ الدُهورِ.