تطالعنا بين الحين والآخر بيانات صادرة عن مواقع رسميّة، عبر الصحف والمواقع الإلكترونيّة وصفحات التواصل، مستهلّة بعبارة: عملًا بتوجيهات. وكأن المبادرة إلى أي عمل ضروري بحاجة إلى توجيهات. وغالبًا ما تتقصّد هذه الجّهات إبراز مرجعيتها كمنقذ "ومخلّص". هذه حال عالمنا العربي عمومًا الذي يؤلّه الموقع، ويقدّس الأشخاص في مناصبهم. طبعًا هذا عائد إلى أسباب عديدة، وفي طليعتها حبّ السلّطة وعشق المال، وهو واقع موجود في دول العالم، إنما "كوكبنا" يختلف عن باقي الكواكب.

مشكلتنا تكمن في العراضات الإعلاميّة، وحبّ الظهور والمظاهر، "والجلوس في أوّل المتكآت". شعبنا يتقن فنّ التمثيل، ويمسرح الحدث. كلّ أساليب الظهور نستعملها ونستغلّها، بما فيها المواقف والمناسبات المحزنة.

في الماضي القريب، كانوا يقصدون شخصًا كمرجع في الضيعة أو البلدة حيث يقطنون لحلّ مشاكلهم، يقصدونه لما يتمتع به من حكمة وتواضع ومحبّة، أمّا اليوم فلم يعد من صوت عاقل نحتكم إليه دون أن ندفع ولاءات سياسية وحزّبية، والعقلاء فضّلوا الإنزواء، حفاظًا على سمعتهم وكرامتهم وتواضعًا منهم.

في الماضي القريب، أيضًا، لم يكن من إحراج في تكريم ضيف لمناسبة معيّنة وتخصيص مكان يليق به. اليوم بات عدد المصنَّفين VIP لا يُعدّ ولا يُحصى. أمّا الجلوس في الصفوف الأماميّة، بات سمةً بارزة عند معظم اللبنانيين، مهما اختلفت مراكزهم ومستوياتهم العلميّة والفكريّة والثقافيّة، المهم أنهم يملكون سلطة المال، فيتساوى الجاهل بالعارف، والمثقّف بالأمّي.

يوجد بالطبع في المجتمعات المختلفة رئيس ومرؤوس ومعلّمون ومتعلّمون. ويوجد أيضًا مقامات ومرّجعيات، لكن الفرق يكمن في احترام هذه الفئات، التي منها نتعامل معها بفرح وقناعة. مردّ ذلك إلى شخّصية وأخلاق وتواضع هذه الفئات، لا سيّما عند السياسيّين وأصحاب النفوذ، والمقامات الروحيّة والزمنيّة وحتى العسكريّة.

وردَ في رسالة الرسول يعقوب "يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً"(يعقوب 4: 6). الإتّضاع هو الثوب الذي تحتشم به النفس البشريّة فلا يظهر خزيها أو عارُها. أمّا المتكبّرون هم من يشعرون أنّهم مصدر النعمة التي هم فيها وليس الله، وهم ليسوا في حاجة لله. لا يسألونه تعالى في شيء، إذ يعتبرون أنفسهم المرجعيّة في كلّ الأمور.

يحضرني في هذا السياق لقائي بشخص صدفة، لا أعرفه ولا يعرفني، سمعني أتحدّث إلى امرأة بحاجة إلى مساعدة، فاستفسر عن الأمر، وبادر فورًا إلى إعطائي مبلغًا قيّمًا من المال، لمساعدة تلك السيدة، وطلب ألا أذكر اسمه أو صفته، وردد الآية: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ"(متى 6: 3).

الذي يعمل ويخدم ويعطي دون تبجّح أو تكبّر أو حبّ الظهور، يستحق أن يكون سيّدًا ومعلّمًا على شعبه، والله سوف يظهره في مجده، "لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ"(لوقا 14: 11). أمّا الشخص الذي يعمل للتمظهر والتبجّح والتّعالي والإستقواء، لا يستحق أن يكون شيئًا قبل توبته لله.

شعبنا يحبّ المظاهر بقوّة، حتّى على حساب ماله وصحّته وسمعته، المهم أن يظهر مهمًا كلّف الأمر. حبّ الظهور مغرٍ، إلا أن الإنسان الذي لا يملأ مكانه، تنطفئ شاشته بسرعة، ولا يعد لشخصه مكان. أمّا المتواضع والمحبّ والمعطاء، فنجمه سيبقى ساطعًا ولامعًا، وهذا الأمر ينطبق على سائر المسؤولين الزمنيّين والروحيّين. المسيح علّم وقال: "بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا"(متى 20: 26). مقياس السيادة تكمن في الخدمة، ومَن يخدم بفرح وتفانٍ وبروح التواضع، يستحق أن يكون مرجعًا وسيدًا. ذاك سيدعونه الناس للتصدّر لأن التواضع ملأ صدره أولاً.