في اليوم الأول من الشغور بات المشهد السياسي مفتوحاً على أفق مسدود سواء في ملف ​الانتخابات الرئاسية​ أو على صعيد تمدّد الفراغ إلى الحكومة «الرئاسية» التي تلقّت قبلَ يوم من مغادرة رئيس الجمهورية السابق ​ميشال عون​ قصر بعبدا «سهماً» لتعطيل آلية عملها المختلف حول دستوريته. وبينما عادَ كل فريق إلى قواعِده تحضيراً للمرحلة المقبلة، يسود الانتظار الجلسة التي دعا إليه رئيس ​مجلس النواب​ نبيه غداً لمناقشة رسالة الرئيس عون حول اتخاذ إجراءات فورية لتجنب الفراغ المزدوج الرئاسي والحكومي. مصادر سياسية بارزة قالت إن «الجلسة ستكرّس الاشتباك الكبير حول الرئاسة والحكومة في ساحة النجمة»، مشيرة إلى أن «أولى معارك ​التيار الوطني الحر​ بعدَ العهد ستنطلق من الهيئة العامة لمجلس النواب وتطلق صافرة انزلاق الوضع إلى دائرة التفلت من الضوابط التي كانت تحكمها في الأسابيع الأخيرة بعض محاولات إيجاد تسوية في ما يتعلق بالحكومة».

مصادر نيابية أشارت إلى أن «الجلسة ستحدد معالم المرحلة المقبلة»، فـ «لا نعرف إن كان النواب سيكتفون بسماعها أو ستتحول إلى وسيلة لكل طرف يستعرض من خلالها وجهة نظره الدستورية ويتوسع الجدال المستمر حول الحكومة وأحقيتها بتصريف الأعمال داخل مجلس النواب».

من جهة أخرى، لا تزال الدعوة إلى الحوار المُزمع عقده بدعوة من الرئيس بري محط نقاش وأخذ ورد، بينَ مؤيد ورافض، والرافضون كُثر استناداً إلى تجارب سابقة لم تؤد إلى نتيجة. في هذا الإطار، قالت مصادر نيابية في كتلة «التنمية والتحرير» أن «موعد الحوار لم يتحدد بعد، وهناك الكثير من العقبات التي تمنع انعقاده بعدَ التطورات الأخيرة ورفع السقف السياسي المتوتر لا سيما بينَ الرئيسين عون وبري»، فضلاً عن أن «الردود السلبية على الدعوة كانت مفاجئة، فكيف يمكن رفض دعوة إلى الكلام والنقاش والحوار مهما بلغت الخلافات». وكشفت المصادر أن «الرئيس بري قد يبدأ بعد الانتهاء من تلاوة الرسالة باتصالاته ومشاوراته بشأن الحوار لتأمين أرضية توافقية حول المبدأ بالحد الأدنى».

جلسة الغد تُظهر الإصطفافات الحادة.. ومجلس النواب أمام محك صعب

تتجه الانظار الى الجلسة النيابية المقررة غدا حيث يتوقع ان تعكس في ما ستشهده من مداخلات ومناقشات المناخ النيابي الجديد حول الاستحقاق الرئاسي في ضوء انتهاء ولاية عون، وكذلك حول الحوار المرتقَب حول بند وحيد هو انتخاب رئيس جمهورية في الوقت الذي لم يتبلور بعد اي توافق على شخص الرئيس العتيد في ظل التباعد السائد بين مواقف الكتل النيابية والسياسية، رغم تأكيد بعض الاوساط السياسية ان هذا التناقض وما يرافقه من تحديد شروط ومواصفات وترشيح اسماء هو امر طبيعي قبل الدخول في الحوار الجدي حول شخص الرئيس العتيد.

تصفية حسابات

وقالت اوساط سياسية لـ"الجمهورية" ان الجلسة المتوقع ان تُستهلّ بكلمة لميقاتي كونه المعني الأساسي بالرد على رسالة عون ثم يُفتح المجال أمام مداخلات النواب «لن تغير شيئا في واقع الازمة السياسية ببعديها الرئاسي والحكومي، ولكنها ستكون مناسبة لتظهير الاصطفافات الحادة على ضفتي الأزمة، حيث من المتوقع ان تتحول مسرحا لتصفية الحسابات بين رئيس حكومة تصريف الأعمال و»التيار الوطني الحر» برئاسة النائب جبران باسيل».

وابلغت هذه الاوساط الى «الجمهورية» ان عدم نجاح مجلس النواب في انتخاب رئيس الجمهورية قريبا سيضعه أمام محك صعب. وَنبهت الى انه اذا طال الشغور في قصر بعبدا من دون أن يستطيع المجلس ان يملأه بالاسم المناسب، فإن ذلك سيبرر ان يطرح البعض مشروعية بقائه وما اذا كانت هناك ضرورة لحل نفسه من أجل كسر المراوحة في المأزق. وأملت الاوساط في أن لا ينعكس التوتر المتجدد بين ​السعودية​ وايران مزيدا من السلبية على الوضع الداخلي، خصوصا على الاستحقاق الرئاسي.

غليان نيابي معارض

والى هذه التطورات المحيطة بالجلسة، تكثفت اللقاءات النيابية لتنسيق المواقف لجهة عدم الحاجة الى اتخاذ اي موقف من الرسالة الرئاسية التي فقدت قيمتها لمجرد انّ مَن وجّهها انتهت ولايته، وان اي قرار يصدر عن المجلس لن يتوافر من يتوجه إليه.

وشددت مصادر نيابية معارضة عبر «الجمهورية» على اهمية ممارسة الضغوط على رئيس المجلس لعقد سلسلة من الجلسات المفتوحة لانتخاب الرئيس بهدف انتخاب الرئيس كأولوية قبل القيام بأي عمل آخر. فانتخاب الرئيس أولوية ويمكن عند إتمام عملية انتخابه ان تقفل السجالات الدائرة حول كثير من الملفات الهامشية التي يمكن ان تكون قد طويت متى تم الانتخاب هذا، عدا عمّا يمكن ان تؤدي إليه من استقرار سياسي ودستوري مُستدام يقفل الأبواب التي يمكن ان تأتي منها التوترات. فهذه الأجواء الهادئة تحتاجها البلاد لاستكمال ما بُني من اتفاقات مع صندوق النقد الدولي واستئناف البحث والتفاهمات مع البنك الدولي والهيئات المانحة بعد انجاز عملية الترسيم البحري والآفاق الجديدة التي فتحتها، والتي يمكن ولوجها في ظل النتائج التي انتهت اليها وخصوصا اطلاق اعمال الشركات البحرية في التنقيب عن النفط والغاز في البلوكات اللبنانية.

وعليه، حذرت المراجع النيابية عينها مما يمكن ان يؤدي اليه خلو سدة الرئاسة من ترددات سلبية لا يمكن تطويقها واستيعابها بسهولة بما يضمن لجم ما يمكن ان تؤدي اليه المهاترات الدستورية والسياسية المتوقعة ان اندلعت من تغذية الانقسامات في البلاد بدلاً من انتخاب الرئيس لتنتظم العلاقات بين المؤسسات الدستورية بعد اكتمال عقدها كاملة.

ولذلك حذّرت المراجع نفسها من حال تخلّي المجتمع الدولي عن الوضع الذي نشأ في لبنان وخصوصا في هذه المرحلة بالذات التي تلت خلو سدة الرئاسة حيث اكتفى ببيانات باهتة لا اهمية لها سوى تذكير اللبنانيين بضرورة انتخاب الرئيس في اسرع وقت ممكن من دون اطلاق اي مبادرات يمكن ان تسرّع في الخطوات في هذا الاتجاه، طالما ان هناك اكثر من طرف داخلي يتأثر بالتوجهات الخارجية في ظل النزاع الإقليمي والدولي الذي يُلقي بظلاله على لبنان والمنطقة.

المحاولة الأخيرة

في سياق متصل قالت مصادر وسطية لـ»الجمهورية» انه بعد انتهاء ولاية عون بدأت الاوساط السياسية ترصد الحرب التي يشنها باسيل على ميقاتي وحكومته غير المُعترِف بها، وان اولى طلائعها بعد 31 تشرين الأول كان ما أشيع وكُشف عن آخر محاولة لتشكيل حكومة.

وقالت هذه المصادر الوسطية التي اطلعت على ما حصل ان حقيقة الامر بدأت باتصال أجراه المدير العام لرئاسة الجمهورية انطوان شقير بالسرايا الحكومية طلبَ فيه لقاء مع ميقاتي الذي اجاب: «اهلا وسهلا». وكشفت ان شقير تحرك بتنسيق مباشر مع باسيل وبعِلم عون، فحمل معه اقتراحا يقضي بتعويم حكومة ميقاتي الحالية كما هي وتجديد الثقة بها في المجلس النيابي. وقد ابدى ميقاتي ترحيبه بالطرح سائلا مُجدداً عن الثقة، فأتاه الجواب: «هذا الامر يعالج في حينه وهناك احتمال ان تترك الحرية الى نواب تكتل لبنان القوي»، فكرر ميقاتي: «الثقة أولاً». فأومَأ شقير أنه لم يحمل جوابا نهائيا، وعندئذ اعتذر ميقاتي من ضيفه الوسيط وأعاد له «الخرطوشة الاخيرة» وطار الى الجزائر، فيما عاد شقير ادراجه الى الرابية لتسليم الجواب…

وقالت مصادر قريبة من رئيس الحكومة لـ»الجمهورية» ان ميقاتي» فهم المغزى من الزيارة الخاطفة بأنها محاولة ليست للتشكيل، وانما لتحميل ميقاتي رفض الاقتراح والقول امام الرأي العام والشارع المسيحي والمجتمع الدولي انه هو من رفض تشكيل حكومة جديدة، وان الدليل هو ان رئيس الجمهورية استمر في مساعيه حتى اللحظة الاخيرة».

وقالت المصادر «ان باسيل عمل من اللحظة الاولى على تعطيل التأليف بكل ما أوتي من قوة في قلم عمه الرئيس ليخلق خصما قويا له يحاربه امام الشارع المسيحي بغية شد العصب، بعد ان وصلته تقارير عدة تحذّره من هشاشة موقعه في مرحلة ما بعد العهد». وأضافت: «سيأتي يوم ويكشف فيه ميقاتي بالحقائق خفايا التأليف ويضعها امام الشعب اللبناني، خصوصا عندما تكشف لعبة باسيل ويبدأ حربه الضروس على الحكومة من داخلها ومن مجلس النواب ليؤكد المؤكد من انه كان هو من يعطّل تشكيل الحكومة لهذه الغاية».

واشنطن مهتمة بتسريع الانتخابات وضمان الطائف

توجه واشنطن رسائل محلية حول ضرورة تسريع الانتخابات الرئاسية والإفادة من الفرص الدولية للبننة الاستحقاق، يرافقها دعم متجدد للطائف من أجل الحفاظ على لبنان في شكله الحالي

مع بدء الفراغ صار الكلام عن «تدويل» الاستحقاق الرئاسي شائعاً، أسوة بكل مرة كانت تقترب فيها الانتخابات الرئاسية أو يحصل شغور في موقع رئاسة الجمهورية. لكن رغم هذا الانطباع الذي كان يتكرس سابقاً مع دخول عواصم إقليمية أو دولية على خط إجراء انتخابات واختيار رئيس الجمهورية، بعد انفجار الوضع اللبناني أو إطالة أمد الفراغ، ثمة كلام أميركي في الآونة الأخيرة مختلف عن السابق.

وعلى وقع الانقسام الحاصل حول الانتخابات بين قوى المعارضة والموالاة، وانتهاء العهد من دون انتخاب رئيس جديد، فإن الفرصة لا تزال متاحة للبننة الاستحقاق، بحسب معلومات مستقاة من دوائر أميركية. وتقول المعلومات إنه منذ أسابيع، هناك ضغط خارجي من أجل تقديم الانتخابات الرئاسية على ما عداها من استحقاقات، خصوصاً أن دول العالم ستكون من الآن وصاعداً منشغلة بأزمات التدفئة وأسعار الوقود والغذاء وانفجار مستجدات حرب أوكرانيا وتداعياتها على أوروبا، ما يجعل الملف اللبناني غير طارئ على أي طاولة دولية.

ومن بين الرسائل التي وصلت، اهتمام أميركي ضاغط وجدي في ما يتعلق بالوضع الداخلي، وإيصال رسائل واضحة حول الموقف الأميركي من التطورات المستجدة. وقد انصب الاهتمام في الآونة الأخيرة على أمرين: أولاً حث المعنيين في لبنان على تسريع إجراء الانتخابات الرئاسية، وتقديمها على كل ما يمكن أن يكون مطروحاً. وبحسب المعلومات، فإن الرسائل الأميركية في شأن الانتخابات بدأت قبل فترة من انتهاء عهد الرئيس ميشال عون، وتصاعدت وتيرتها تدريجاً. وهي انطوت على ضرورة استغلال القوى السياسية في المرحلة الراهنة الزخم الداخلي بغضّ النظر عن الانقسامات، وبقاء نوع من الاهتمام الدولي بلبنان قبل الدخول في رزمة أزمات قد لا تنتهي قريباً. وواشنطن كما تقول المعلومات مهتمة بتسريع إجراء الانتخابات وعدم انتظار المواقف الدولية والتطورات الخارجية، ودعوة القوى الأساسية للعمل في وتيرة سريعة للاتفاق على رئيس جديد، من دون أن تتدخل مباشرة عبر مبادرات محددة. لكن الرسالة التي حرصت على إيصالها إلى أكثر من وسط لبناني وخارجي بضرورة الذهاب إلى تحرّك داخلي تدعمه واشنطن من أجل إجراء الانتخابات، وعلى القوى المعنية تحمّل مسؤوليتها في تزخيم العمل لانتخاب رئيس جديد، وعدم التهاون مع ما يمكن أن يتركه ​الفراغ الرئاسي​ لفترة طويلة كما حصل سابقاً. ويترافق الدفع الأميركي مع تبيان ضرورة ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الذي يحتاجه لبنان في هذه المرحلة، لأن كلفة عدم إجراء انتخابات، وما يرافقه من توتر سياسي، قد لا تظل تبعاتها محصورة. وهذا يرتب مسؤوليات كبيرة على كل القوى التي ستجد نفسها عالقة بين توترات سياسية وأمنية. وهي ترى أن الفرصة لا تزال سانحة كي تتفق هذه القوى على رئيس جديد، قبل أن ينتقل الملف إلى خارج لبنان في الوقت الضائع.

النقطة الثانية هي أن واشنطن، وفي ظل احتمالات انعكاس الفراغ الرئاسي على الوضع الداخلي ومستقبل لبنان، ضاعفت من رسائلها في شأن ​اتفاق الطائف​. في هذه النقطة، تبدو واشنطن أقرب إلى الرياض، رغم التباينات الأخيرة مع السعودية في مواقف إقليمية ودولية ونفطية، إلا أنها منسجمة معها في شأن مقاربة الوضع اللبناني، وضرورة الحفاظ على اتفاق الطائف وديمومته.

تدعم واشنطن بقوة عدم الدخول في مغامرات أو عقد حوارات حول الطائف

وهي تعتبر أن أي مس به، يعني أن لبنان الحالي لن يبقى بصيغته وبشكله الحالي بل سنكون أمام «لبنانات» متعددة لا تعكس الوجه الذي كرسه الطائف للبنان، والذي لا يزال المجتمع الدولي متمسكاً به. وتدعم واشنطن بقوة عدم الدخول في مغامرات أو عقد حوارات حوله. وتمسك واشنطن بالاتفاق، يعطي له دفعاً جديداً، لأنه لا يتعلق بدعم سياسي - إعلامي كلازمة إنشائية، بل العكس تماماً، بحسب المعطيات الأميركية، لأن هذا الموقف الذي تردد صداه في أكثر من لقاء وتواصل بين واشنطن ولبنان وعلى مستويات مختلفة، يعطي للبيان الثلاثي المشترك الذي صدر من نيويورك، بين وزراء خارجية ​الولايات المتحدة​ والسعودية و​فرنسا​، بعداً متقدماً يتعدى كونه تكراراً لموقف سياسي إقليمي ودولي. وتعول واشنطن في هذه المرحلة على أن يكون موقفها المتجدد دعماً لاتفاق الطائف، حماية للنظام الحالي ودفعاً جديداً من أجل خطوات عملانية في اتجاه إعادة تركيب أسسه وانتظام عمل المؤسسات بدءاً من رئاسة الجمهورية. وقد وجد هذا التأكيد سبيله في أوساط أميركية مهتمة بالشأن الداخلي، وتزكية في التعامل مع المرحلة المقبلة لبنانياً، بحيث يتصدر الطائف والقرارات الدولية تعامل واشنطن مع الوضع اللبناني، الذي لا يمكن لها أن تبقى متفرجة عليه، لكنها تضغط في المقابل كي تكون للمراجع المعنية القدرة على تسريع تفاهمها وخطواتها من أجل وضع انتخابات الرئاسة في مقدم الحدث اللبناني، ما يجعل القوى الخارجية أمام حتمية التعامل مع الانتخابات، بدل استسهال الفراغ.