"الفساد الفساد، جوّا جوّا العمامات". صرخة لطالما ارتفعت في شوارع مدينة بيروت في وجه التعسّف والممارسات الذكورية التي تنتهجها المحاكم الدينية، لا سيّما الجعفرية منها، ضدّ النساء والأطفال. هذا الشعار الذي أطلقته نادين جوني وردّدته أمام المحاكم الجعفرية وهي تحارب لأجل حضانة ابنها حتى رمقها الأخير، هو الشعار الذي تصدح به حناجر نساء ورجال في الشوارع لأجل نادين وللأمهات جميعاً. لقد ردّدوه بكل قوّةٍ وصلابةٍ، ليس ضدّ المحكمة الجعفرية ومشايخها فقط، بل ضدّ رجال الدين أجمعين، في المحاكم الشيعية والسنيّة والمسيحية والدرزية. كانوا يردّدونه وهم على دارية أنّ الفساد والظلم يغمران مجالس أولئك ومخادعهم وسط قوانين وتشريعات وشرائع تجسّد العقليّة الذكورية، محوّلةً حياة الأمهات وأطفالهن إلى جحيمٍ مرعبٍ... إلى حياة يحاصرها الخوف والقلق.

مأساة الأمهات والأطفال

أم تقيم منذ ثلاثة سنوات في نزل (أو ما يُعرف بالـ "فواييه") في بيروت، تخبر عمّا عانته من إجحاف في المحكمة المسيحية في حقّها، وكيف تمّ انتزاع ابنتها الرضيعة من حضنها، مع أطفالها الآخرين، ولم تستطع فعل شيء، لا لأنّ قوانين المحاكم المسيحية كانت مجحفة فقط، بل أيضاً لأنّ طليقها كان مقرّباً من شخص نافذ في السلطة السياسية، فبقيت عاجزةً دون حيلة، وراحت تتراجع صحتها الجسدية والنفسية.

لا يمكن تصوّر عمق الآلام التي عانت منها ليليان شعيتو، ونادين جوني، وزينة شقير، وغيرهن من الأمهات، فاللائحة تطول... كما من غير الممكن الإحساس بمدى مأساة الأطفال والطفلات الذين/اللواتي انتظروا/ن أمهاتهم/ن خلف سياج المدرسة مثلاً، من أجل معانقة خاطفة أو قبلة سريعة أو حتى نظرة مختَلَسة. ولكن، مجرّد رؤية تلك المرأة تتردّد إلى مدرسة أطفالها لتلقاهم في السرّ، محزنة بل مخيفة، إذ تثير خشية كل طفل وكل أم أن يتعرّضا لمثل هكذا تجربة مريرة. وكم من طفل انتظر أمه، خائفاً ألّا تأتي؛ وإن أتت، أن تفعل ذلك تضحيةً من أجله فيما هي تعاني الأمرّين ولا تطلب الطلاق لكي لا يُسقط عنها حقّها في حضانة طفلها... فيبقى ذاك الطفل معلّقاً بين جحيمين: جحيم العودة إلى منزل تعيس، وجحيم المحاكم الدينية.

"ماذا لو أنّي فقدت حضانتهم/ن"؟ هو سؤال لطالما ردّدته أمهات كثيرات أجبرن أنفسهن على تحمّل الأضرار اللاحقة بهن فقط لكي لا تُسلب منهن أمومتهن. وإذا كان هناك من مخرج قانوني لكي يكسبن حضانة أطفالهن، فهذا يعتمد على حظّين متلازمين: الأول، مصادفة قاضٍ من أصحاب الضمير، على إدراك ووعي بمصلحة الطفل الفضلى، والتي هي أهم من التشريعات والعقائد والعقليّات الذكوريّة، والثاني، المثول أمام محكمة دينية (بحكم انتماء الزوجين الديني) تراعي مفهوم العدالة، لا التمييز ضدّ النساء.

البحث عن عدالة مفقودة

في وطن تُغيّب عنه معالم الدولة المدنية، ويهيمن عليه ١٥ قانون للأحوال الشخصية، كل واحد منهم مرتبط بمذهب ديني يتحكّم بمصير الطفل والأم، يعمل العديد من الجمعيّات النسائية في لبنان على تقديم الدعم القانوني إلى جانب الدعم النفسي – الاجتماعي للنساء الساعيات لتحصيل حقّهن في حضانة أطفالهن. من بين هذه الجمعيّات، جمعيّة "كفى"، و"أبعاد"، و"التجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني" وهي جمعيّات توفّر خطاً ساخناً لطلب المساعدة من خلاله. ومن بين أرقام الهاتف المتوفّرة لتقديم الدعم والمشورة:

018019-03 (مركز الدعم في جمعيّة "كفى")؛ 81-788178 (منظمة "أبعاد")؛ 71-500808 ("التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني").

تشير الأستاذة فاطمة الحاج، وهي محامية في جمعيّة "كفى"، إلى أنّ "كفى" تركّز في عملها على التمكين والدعم النفسي والاجتماعي والقانوني للنساء والأطفال، ضحايا العنف، من خلال مركز الدعم التابع للجمعيّة، والذي يعمل على تأمين مساحة آمنة لضحيّة العنف، أكانت امرأة، أو طفل/ة، وتقديم المساندة اللازمة لها وله، بمعزل عن الجنسية والطائفة، من أجل بناء خطّة عمل للمواجهة، وذلك من خلال فريق عمل متعدّد الاختصاصات، وضمن إطار احترام السريّة المهنية، والخصوصية الفردية، وتشجيع الاستقلالية الذاتية والتمكين. وتعتبر الحاج أنّ موضوع الحضانة في لبنان، بظلّ وجود ١٨ طائفة و١٥ قانون للأحوال الشخصية، لا يعني فقط التمييز بين رجل وامرأة، بل أيضاً بين امرأة وأخرى، وذلك يعتمد على المحكمة التي تخضع لها المرأة، بحيث أنّ سنّ الحضانة يختلف من محكمة إلى أخرى... "وهنا تبدأ معاناة الأمهات، فلا وجود لقانون ثابت، بل لقضاة شرعيين غير ملمّين بحاجات الطفل واستقراره النفسي والبيئي وحمايته". هذا وتؤكّد الحاج، أنّ قوانين الحضانة في لبنان لا تشكّل ضرراً على الأمهات فقط بل أيضاً على الأطفال بحيث أنّ العديد من القضاة الشرعيين يعتبرون أنّ "الولاد ضايعين وضايعين بسبب الطلاق..." بدون أخذ الأهليّة للحضانة كمقياس. وتضيف أنّ جمعية "كفى" تعمل على المطالبة بحضانة مشتركة، وفي حال الخلاف، يجب مراعاة مصلحة الطفل الفضلى بحيث يتمّ الأخذ بالاعتبار استقراره النفسي والبيئي.

وأمام إجحاف السلطات والمحاكم الدينية والطائفية في لبنان، تصرّح الحاج أنّ محامين من الجمعيّة يرافقون الأمهات الى المحاكم، لتقديم الخدمة القانونية. "نرى أنّه من النادر جدّاً وفي نطاقٍ ضيقٍ جدّاً، وبأوضاع استثنائية، أن تنجح دعاوى الحضانة. وهذا يعتمد على القضاة أحياناً لأّن المحاكم الدينية متمسّكة بقوانينها. ولكن اليوم، ومع الاعتكاف القضائي، تبقى قضايا النساء متروكة ومعلّقة في مهب الريح".

القانون للحصول على الحضانة

تمرّ الدعاوى المتعلّقة بحضانة الأطفال بعدّة مراحل قانونية وذلك وفقاً للاختصاص المكاني والنوعي الذي تُقدّم دعوى الحضانة فيه بدايةً، بحسب المحامية نورمن حلاوي والناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والمتخصّصة في الدفاع والتمثيل القانوني للفئات المهمّشة وقضايا النساء. توضح حلاوي بأنّ الاختصاص المكاني يعني إمّا مكان إقامة الزوج المدَّعى عليه أو مكان عقد الزواج. وفي ما يتعلق بالاختصاص النوعي، يُقصَد به لدى أي محكمة سيتمّ تقديم الملف. وتشير حلاوي إلى أنّ المحاكم في لبنان موزّعة بين محاكم شرعيّة للمذاهب الإسلامية ومحاكم روحية للمذاهب المسيحية، ومحاكم علويّة. ولكل محكمة دينية قانونها الخاص، إلى جانب الاختلاف في تحديد السن القانوني للحضانة. هذا بالإضافة إلى المحاكم المدنية في لبنان المخصّصة للأزواج الذين قرّروا الزواج مدنياً خارج الأراضي اللبنانية بحيث يُطبّق عليهم قانون البلد الذي انعقد فيه زواجهما.

تشرح المحامية نورمن حلاوي أنه، من بعد النظر في كل ما تمّ ذكره، وبعد التقدّم باستحضار للمحكمة ومطالبة بالحضانة، تختلف الإجراءات من محكمة إلى أخرى حسب الأصول. فبعض المحاكم تبلّغ الاستحضار للطرف المدّعى عليه وتعطيه مهلة للجواب، بحيث يتمّ تبادل لوائح، وجواب، وجواب مقابل، ومن ثمّ يتمّ تعيين جلسة أولى تتبعها عدّة جلسات، ليصدر الحكم بعدها. وتضيف حلاوي أنه، أثناء الدعوى، يمكن للمدّعي المطالبة بحضانة أو مشاهدة مؤقّتة لحين إصدار القرار النهائي. وبعد صدور القرار النهائي، أي حكم عن محكمة الدرجة الأولى، يستطيع الطرف الخاسر أو المتضرِّر من الحكم تقديم استئناف للمحكمة ذات الاختصاص النوعي.

تؤكّد حلاوي أنّ الوقت الطويل الذي يأخده مثل هذه القضايا يعود إلى إجراءات المحاكمات، والفترات الممتدّة بين جلسة وأخرى التي ممكن أن تطول كل فترة منها ما بين ثلاثة إلى أربعة أشهر وأحياناً سنة. وهذا مرتبط بأسباب عديدة منها: البطء في الجلسات، وكثرة الملفات، وعدم القدرة في الوصول إلى المدّعى عليه لإبلاغه أو عدم معرفة عنوانه، وتهرّب المدّعى عليه من تلقّي التبليغ والاستمهال في إحضار الأوراق المطلوبة والمماطلات المتعمَّدة. كما تضيف حلاوي: "لكن بعض الإجراءات تكون سريعة وذلك يعتمد على نوع المحكمة وحسب إجراءات كل قاضٍ وضغط العمل في المحاكم."

عدالة في ... الإجحاف والظلم؟

"لبنان لا يخالف فقط الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بهذه الإجراءات، بل الدستور اللبناني بذاته، والذي ينصّ على أنّ اللبنانيين جميعاً سواسية أمام القانون". تتوقّف حلاوي عند هذه النقطة طارحةً عدّة تساؤلات: "لكن كيف السواء أمام القانون والمرأة الشيعية غير المرأة السنيّة والمسيحية والدرزية؟ ولماذا واحدة لديها الحق في حضانة ابنها لمدّة سنتين وأخرى لـ١٥ سنة؟ هل بهذه الطريقة تكون النساء سواء أمام القانون وأمام الدستور؟" وتشدّد حلاوي أيضاً على أنّ هناك مخالفات واضحة لاتفاقيات حقوق الطفل ومناهضة التمييز ضدّ النساء (إتفاقية سيداو)، وأنه بالرغم من أنّ النصوص تركت الشؤون المتعلّقة بالعائلة للمحاكم الدينية ومنحهتها الاستثناء، إلّا أنّ هذا مخالف للدستور إن من حيث غياب المساواة بين إمرأة وأخرى، وبين النساء والرجال، وإن من ناحية تقسيم الناس إلى فئات والتمييز في ما بينهم.

بين حملاتٍ وتحرّكاتٍ مطالِبة برفع سنّ الحضانة، ومنها حملة "حضانتي ضد المحكمة الجعفرية"، وهي مبادرة أطلقتها أمهات حُرمن من حضانة أطفالهن، والتحرّك الذي نظّمه التجمع النسائي في العام ٢٠١٩ تحت عنوان "احذروا غضب النساء"، بحيث سلّط الضوء على عدد من قصص الأمهات والحضانة مع المحاكم الجعفرية، والسنيّة، والدرزية، والمسيحية، اللواتي حرمن من حضانة أطفالهن، ودولة تمعن كل يوم في تسجيل انتهاكات للاتفاقيات الدولية لا سيّما تلك المرتبطة بحقوق المرأة والطفل، يعتبر بعض النشطاء أنّ المخرج الوحيد المتوفر في الوقت الراهن قد يكون فضح كل جهة دينيّة "تختطف" الأطفال من أمهاتهن، بانتظار أن تشرّع لعبة الحظ أبوابها للأمهات. ولكن الحل الفعلي هو المحاربة من أجل إقرار قوانين منصِفة لجميع النساء المقيمات على الأراضي اللبنانية، ومراعية لمصلحة الأطفال الفضلى.

فمشاهد اختطاف الأطفال من أحضان أمهاتهن التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وقابلها استهجان واسع، خصوصاً تلك التي ارتبطت بأصحاب النفوذ في لبنان، تبقى راسخة في الأذهان: صرخات الأطفال الذين يُسحَبون بعنفٍ من بين أيدي أمهاتهم... صرخات الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن... ومطالَبات بقانون مدني موحّد للأحوال الشخصية في لبنان لإنصاف النساء والأطفال و... إسقاط أحكام جائرة وتحكّم لا شرعي بالمصير.