تميزت منطقة الشرق الأوسط بتنوع ديني، حيث جمعت بمكوناتها أيضاً العديد من القوميات، وبطبيعة الحال إنّ هذا الأمر يؤثّر بشكل مباشر على النسيج الديني والاجتماعي لجبل لبنان، فمع صدور فرمان السلطان العثماني عبد المجيد الأوّل عام 1856، والمتضمن موضوع المساواة بين جميع الرعايا العثمانيين على اختلاف دياناتهم، الأمر الذي انعكس على وضع جبل لبنان حيث قام كلّ من (الدروز والموارنة (الكادحين))؛ على الاقطاعيين من طوائفهم وذلك من أجل تحقيق حقوقهم. وبالتالي بدأت تتبلور فكرة العقد الاجتماعي في جبل لبنان تحت رعاية السلطنة العثمانية، خصوصاً مع الاصلاحات الإدارية التي أجريت.

إنّ مصطلح العقد الاجتماعي حين تبلور فلسفياً بدأ مع سقراط، ثمّ في النصف الثّاني من القرن السابع عشر مع "هوبز ولوك"، (ومثّل كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، أبرز المراجع بهذه الخصوص)، حيث قام هذا المصطلح على خضوع الأفراد للدولة والتنازل عن بعض حرياتهم، وذلك من أجل حماية باقي حقوقهم.

ترتكز فكرة العقد الاجتماعي في وقتنا الحالي على أسس حقوقية ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية، فتكون العدالة الاجتماعية وفقاً للمفكر الاقتصادي " جون كينيث جالبيرت" أنّها قائمة على عقد يكفل للفئات الفقيرة حاجاتها المعيشية بالإضافة إلى تنمية القدرات الانتاجية لكلّ فرد.

ووفقاً لرأي المفكر "جون راولز"، أنّ العقد الاجتماعي يتضمّن سبل توزيع الحقوق والواجبات الأساسية ومزايا التعاون بين مؤسسات الدولة والمجتمع.

وفي السياق نفسه يمكن القول أنّ النسيج الاجتماعي ونظام الحكم والثروات والدخل، تمثّل الأفكار الرئيسة التي يمكن أنّ يقوم عليها أيّ نظام سياسي في وقتنا الحالي وتشكّل الديمقراطية الدافع الرئيسي له.

بالعودة إلى تاريخ منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص جبل لبنان، شكّلت التدخلات الأوروبية المؤثّر الأكبر في طبيعة العقد الاجتماعي الذي قام في منطقتنا العربية. ما بين "الليدي هستر ستانهوب" والسفارات في الدول الحديثة، شكّلت قضية دعم وحماية الأقليات المشرّع الأكبر لهذه التدخلات.

لعبة بدأت بضرب دول المنطقة وإشعال الفتن بين تكوينات منطقة الشرق الأوسط الدينية والقومية، في العام 1842 وافق السلطان العثماني على مقترح الأمير مترنيخ، وقسّم جبل لبنان إلى مقاطعتين، شمالية يحكمها مسيحي وجنوبية يحكمها درزي، وبعد أحداث 1860 سقط هذا النّظام في ظلّ الاقتتال الطائفي، وخرج إلى النور مقترح جديد عرف ب "المتصرفليغي"، وبدأت معه عملية التقاسم الطائفي لمقاعد الممثلين في المجلس الإداري، وبقي هذا النّظام قائماً حتى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 ووضع دستور 1926.

طيلة قرن من الزمن اعتاد اللبنانيون على الجمع ما بين طوائفهم والديمقراطية، حيث نتج مولود هجين حمل اسم الطائفية السياسية، وبالاستناد إليه فإنّ عجلة التقدم الاقتصادي والاجتماعي تمرّ من خلال كبار تجار هذه الطوائف، وهذا ما برز مؤخراً بعد انتشار وباء كورونا، والضغط الأميركي على لبنان حيث شكّلت الامتيازات الممنوحة لبعض الجهات إحدى ركائزه.

مع ثورة 58 وحتى الحرب الأهلية التي اشتعلت في العام 1975، وظلّ تدخل دولي وإقليمي وعربي، وضعت أسس النظام السياسي اللبناني الحديث بموجب اتفاق الطائف في العام 1989، حيث عدّل الدستور وبدأت مرحلة جديدة في نظام الحكم، تحكمها السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء، وتوزيع لمقاعد المجلس النيابي بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين.

وفي السياق نفسه وضعت أسس إلغاء الطائفية السياسية بموجب اتفاق الطائف، على أنّ يتمّ العمل بها وتطبيقها، مع إنشاء مجلس للشيوخ يمثّل العائلات الروحية في لبنان، إلاّ أنّه ومع دعوات رئيس المجلس النيابي اللبناني الرئيس "نبيه بري"، الدائمة مع كلّ انتخابات تجرى لانتخاب رئيس جديد للبلاد، المتضمنة السعي للعمل على تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء االطائفية السياسية، لا تلقى تجاوب.

وفي السياق نفسه، مع زيارة الرئيس الفرنسي "ماكرون" للبنان بعد وقوع تفجير مرفأ بيروت، حيث دعى إلى وضع عقد اجتماعي جديد للبنان، ثمّ تتالت الدعوات ومؤخراً دعت السفارة السويسرية في بيروت إلى لقاء بين الافرقاء اللبنانيين، حيث أنّ الدعوة فشلت. ومقلب اخر نظّمت المملكة العربية السعودية مؤتمراً من أجل العمل على تطبيق اتفاق الطائف.

لذا بين دعوات ودعوات، يبقى عدم السير نحو دولة المواطنة المشكلة الأساسية التي سيعاني منها اللبنانيين. حيث شكّلت الديمقراطية في النظام اللبناني، رافعة لنظام سياسي هجين بين الدولة والطوائف.

فمن خلال مواكبتنا لكل استحقاق دستوري، يتعلق بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية لملء الشغور في كرسيّ الأوّل، يعود الحديث عن اتفاق الطائف واستكمال تطبيقه وتطويره، وفي آخر 4 سنوات أصبح هناك حديث عن عقد اجتماعي جديد للبلاد.

في السياق نفسه إنّ الديمقراطية التوافقية كانت غالبة على النّظام السياسي الّذي نشأ بعد التعديلات الدستورية التي أجريت على دستور 1926، من خلال ما يعرف بوثيقة اتفاق الطائف، وأصبح هناك مصطلح الدستور اللبناني لعام 1990.

أيّ عقد اجتماعي جديد لا يمكن أنّ يقوم فقط على تدخلات أو دعم خارجي، بل لا بد أنّ يكون عموده الفقري الفرقاء الداخليين من طوائف وأحزاب وجهاتٍ لبنانية. وأيضاً أن يقوم على تطوير ال​سياسة​ التعددية من منطلق وطني لا طائفي، حيث يصبح الحديث عن المساواة كمبدأ يتمتع به المواطنون في الدولة لا أتباع الطوائف.

في لبنان الذي تعرض نسيجه الاجتماعي لعدد كبير من التحديات، خصوصاً اﻵثار الاقتصادية والاجتماعية التي ترتبت من جراء وباء كورونا، وجود ضغوط أميركية على البلاد وذلك من أجل محاصرة المقاومة وحلفائها، وخصوصاً بعد اندلاع بما يعرف بثورة 17 تشرين (تشرين الأوّل من العام 2019)، واعتراف الأميركيين مؤخراً أنّهم الداعم والممول الرئيسي لها وللجمعيات غير الحكومية.

لذا يكون الهدف الرئيسي من وراء ذلك، هو التحكم في الثروة الغازية في البحر اللبناني، والضغط على إيران في ملفات المنطقة، وبالتالي منع دخول لبنان كلياً ضمن الاستراتيجيات الروسية الصينية والإيرانية.

لذا أيّ حديث عن مؤتمرات دولية من أجل البحث في الشأن اللبناني، يسوده الشبهة خصوصاً فيما يحمل من مضامين في هذا التوقيت، وذلك عبر مطالبة الخارج بالتدخل لدعم فئة على باقي فئات نسيج الكيان اللبناني. فهل أنّ هذه الجهات التي تدعوا الخارج إلى التدخل في الشأن اللبناني، في مصب اهتماماتها التنمية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين اللبنانيين؟ أمّ هدفها إعادة لبنان إلى ما قبل عام 1989 وبالتالي نسف اتفاق الطائف.

لذا يكون أمام الجهات التي تدعوا الخارج مطبات لا يمكن أنّ يتمّ تخطيها ومنها المملكة العربية السعودية التي لا يمكن أنّ تتخلى عن اتفاق الطائف، بل تسعى إلى تطبيقه وليس إلى وضع عقد اجتماعي جديد يهدّد الكيان السنّي في لبنان. وأمّا العقبات اﻵخرى تتمثّل بدور سوريا التاريخي في لبنان، فلا يمكن الحديث عن تغييرات جذرية تطال النّظام اللبناني دون وجود سوريا.

لذا كلبنانيين لا يمكننا الحديث في الوقت الراهن عن أيّ تطبيق لاتفاق الطائف أو أيّة مقترحات أخرى، دون أنّ يكون ذلك إلّا من خلال المؤسسة الأمّ في الدولة اللبنانية، أيّ المجلس النيابي ووفقاً لما هو معروف المجلس النيابي يمثّل السيادة الشعبية، وأمّا الدستور يمثّل الإرادة العليا للشعب، وبالتالي بموجب اتفاق الطائف قسّمت مقاعد المجلس النيابي مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، فلا يوجد أفضل من مؤسسة المجلس النيابي للقيام بهذه المهمّة، خصوصاً بعد دعوات رئيسه الرئيس "نبيه بري" المتتالية للحوار. فالمحافظة على السلم الأهلي يكون عبر دعم المؤسسات الشرعية في الدولة، ومنها مؤسسة المجلس النيابي الذي يجمع ممثلين عن كافة العائلات الروحية في لبنان.

وبالعودة إلى استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية اللبناني، لا يمكن أنّ يتمّ دون وجود مبدأ التوافق، ولا يمكن أنّ يتمّ من منطلق كونه منصباً يعود للطائفة المارونية، عرفياً يعود للطائفة المارونية، أمّا وطنياً يتمّ انتخابه من قبل غالبية النواب الممثلين لطوائفهم في المجلس النيابي، فرئيس الجمهورية طائفته من الطائفة المارونية الكريمة، وأمّا سياسياً يكون منطلقه وطنياً جامعاً.

نافلة القول؛ تنبثق السياسيات في الدولة عن تحالفات بين مكونات النسيج اللبناني وذلك من خلال الديمقراطية والمؤسسات الدستورية وميثاق العيش المشترك، وبالتالي عبر الممثلين المنتخبين من قبل الشعب اللبناني. لذا تكون صناعة القرارات الوطنية تهدف إلى إحداث تغييرات تفيد المواطنين ككلّ، وليس إحداث تغييرات هيكلية قائمة على منطق المكتسبات الطائفية، والغلبة من خلال دعم الخارج لفئة من فئات النسيج اللبناني. فلبنان وطن لجميع أبنائه من المسيحيين والمسلمين، ويجب العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع دون تمييز.