ينطلق المسيحيّون في رحلة نحو مغارة بيت لحم. فالأرثوذكس ابتداءً من الخامس عشر من شهر تشرين الثاني، يدخلون صوم الميلاد، حيث نجد أنفسنا في حال من التهيئة لظهور المسيح بالجسد. هذا الصوم فيه عنصرٌ من التهيئة كسائر الأصوام الأخرى، لكنّه يختلف عن الصوم الكبير وصوم السيدة من حيث قوانين الصيام وأشكاله.

لناحية الأطعمة، نمتنع في صوم الميلاد عن الزفرَين، أي اللحوم والبياض، ولكن مسموحٌ أكل السمك باستثناء الأربعاء والجمعة. هذا الترتيب يمتّد في كنيستنا إلى عيد القدّيس أغناطيوس الأنطاكي وتقدمة الميلاد في العشرين من كانون الأول.

من جهة الليتورجيا، نبدأ مع عيد دخول العذراء إلى الهيكل، بترتيل كطفاسيات الميلاد (تراتيل)، كما نرى تغييرًا فعليًّا في الأيام الأخيرة الخمسة، أي الممتدة من تقدمة العيد في العشرين من كانون الأول إلى البارامون (تهيئة العيد) في الرابع والعشرين منه. في هذه الأيام نرَتّل ترانيم العيد يوميًا، وبعض الكنائس تغيّر لباسها، أي غطاء المائدة وستائر الهيكل، إلى الأبيض.

نؤمن في الكنيسة الأرثوذكسيّة أنّ الصوم معبر للتواضع والتوبة والعطاء، حيث يساعدون الإنسان للاقتراب من الله بالتخلّي عن الملذّات. "صحيح أنّ الصوم يؤثّر على الجسد إلا أنّ التركيز هو على الوجه الروحي أكثر منه على الوجه الجسداني، ويرى اللاهوت الأرثوذكسي جمعاً بين الجسد والنفس، فكلّ تأثير على الأول يؤثّر على الآخر". لذا، ليس كافياً أن يُصام عن الطعام بل ينبغي أيضاً الامتناع عن الرذائل والغضب والجشع والحسد والبخل والنميمة والكبرياء والآفات المميته للنفس والجسد. بالمقابل فلنفَعّل أعمال البِر والخير والإحسان ونضاعفها.

بعضنا يستعجل العيد بالزينة والهدايا وتوابعهما، وننسى أن ننقّي أنفسنا من التجارب والخطايا المعشعشة في قلوبنا وأفكارنا. لذا فلننكب على قراءة الكتاب المقدّس، ولا سيّما النبؤات التي تتحدث عن تجسّد ابن الإنسان، ونمارس أفعال الرحمة مع الذين يستحقونها والذين لا يستحقونها. هكذا تصبح نجمةُ بيت لحم، لا أنوار هذا العالم، هاديةَ لنا في رحلتنا.

إذًا الميلاد على الأبواب، هذه عبارة ستتردد من الآن فصاعدًا على مسامعنا، لكنّ السؤال هل نحن جاهزون لفتح الأبواب لأصحاب العيد، من المرذولين والمقهورين والمقموعين والمغتصَبين والمعنَّفين، والفقراء والمساكين والمأسورين والمنهوبين والمهمّشين؟... هل سنشرّع أبواب الرحمة للذين هجّروا ونكّل بهم وغدرتهم الأيام؟ هل اللطف والوداعة والمحبة ستطال شريحة من الذين اتّحد يسوع في وجوههم وأجسادهم؟ أم سنكتفي بالقشور الخارجيّة والبهرجة العالميّة!.

أقولها بالفم الملآن، ودون تردد، وبعد خبرة سنوات في الرعايا والعمل الكنسي، ورغم كل قساوة الدهر والمصائب والنكبات، إن الله يعمل من خلال بشر كثر، الذين جعلوا مغارة بيت لحم حيّة فيهم، لم ينسوا يومًا فعل الخير والعطاء، وفهموا ليس فقط أن الميلاد فترة وتنتهي، إنّما الميلاد في قلوبهم على مدار السنة، ولولا هذه الشريحة، التي ثبتت أنها تملك قلوبًا نقيّة اكثر بكثير من ناس تكرّسوا للخدمة، لما صمدت البشرية وواجهت زل الفقر والعوز لتاريخه.

إن اكثر الناس عطاء، أولئك الذين فهموا أن قلوبهم مسكنًا ليسوع، حوّلوها إلى مغارة لإستقبال المسيح. ليس بالصلاة والصوم، مع اهميتهما، يولد المخلّص فقط، إنما بالعطاء والحب والتضحية والإحساس بوجع وحزن الناس وتقهقرهم.

إن الذين ذاقوا مرّ الحياة وقساوتها هم أقرب المقرّبين من طفل المغارة. هؤلاء الذين تعرضوا في حياتهم، لمصائب ارتكبتها حيوانات بشرية مفترسة بحقهم، فهموا ما فعله الرعاة والمجوس مع يسوع، فحملوا الدفء والهدايا للفقراء، الذين ساوى يسوع نفسه بهم، وهو القائل: "لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني، وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ"(متى ٢٥: ٣٥- ٣٦). كل مَن يصنع هذا لهؤلاء، إخوة يسوع الصغار، صنعها معه، وهكذا يتحول الميلاد إلى عيد حقيقي لا ذات أبعاد وثنية، وهكذا تُكتب أسماؤهم في سفر ملكوت السموات.