يتوهّم من يراهن منذ الآن على أن حلول العام الجديد سيؤدي إلى تبدُّل في المشهد السياسي ينهي تمديد مسرحية تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية بذريعة إمكان ظهور معطيات جديدة مصدرها إنضاج الظروف الإقليمية والدولية لإخراج التعطيل من الدوران في حلقة مفرغة، رغم أن كل المؤشرات الخارجية تستبعد حصول تدخّل يرعاه المجتمع الدولي ويفتح الباب لإنجاز الاستحقاق الرئاسي الذي يحاصر النواب بعد أن طغى على الجلسات الهزل والسخرية من جراء تخلي النواب عن واجبهم بانتخاب الرئيس لإعادة انتظام المؤسسات الدستورية.

فالجلسة النيابية السادسة المقررة اليوم لانتخاب رئيس للجمهورية ستنضم إلى سابقاتها من الجلسات التي انتهت إلى تعطيل الانتخاب في ظل انقطاع التواصل بين الكتل المؤيدة لترشيح النائب ميشال معوّض، ومحور «الممانعة» المنقسم على نفسه، والذي لا يجرؤ حتى الساعة على تبنّي ترشيح زعيم تيار «المردة» النائب السابق سليمان فرنجية ما دام رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل يصر على عدم التناغم مع حليفه الأوحد «حزب الله»، ويستمر في التغريد وحيداً رافضاً رفع الفيتو عن ترشيح فرنجية، وهذا ما أبلغه إلى الأمين العام للحزب حسن نصر الله.

وكأن استمرار انقطاع التواصل بين القوى المؤيدة لمعوّض ومحور «الممانعة» لا يكفي، ليأتي استمرار رفض معظم النواب المنتمين إلى قوى «التغيير»، باستثناء عدد قليل منهم، الالتحاق بهذا المحور أو ذاك بذريعة أنهم يريدون التموضع خارج الاصطفاف السياسي للقوى التقليدية.

وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر نيابية أن النائب ملحم خلف سعى في مطلع الأسبوع الحالي لإعادة لملمة صفوف زملائه النواب في قوى التغيير، وتمكّن من إقناعهم بعقد لقاء تشاوري عن بُعد عبر تقنية الفيديو، لكنه انتهى إلى تكريس الانشقاق بين فريق مؤيد لترشيح الأستاذ الجامعي عصام خليفة وآخر داعم لمعوض.

وكشفت المصادر النيابية عن أن خلف هو من أدار اللقاء عن بُعد من منزله في حضور النائبين ياسين ياسين وميشال الدويهي الذي كان أعلن سابقاً انفصاله عن زملائه النواب من دون أن ينقطع عنهم نهائياً، مكتفياً بالتشاور معهم في كل ما يتعلق بالتشريع في المجلس النيابي.

ولفتت إلى أن اللقاء كرّس الانشقاق بين النواب الأعضاء في تكتل قوى «التغيير»، وتوقّعت أن يرتفع تأييد معوّض، وإنما بعدد لا بأس به للالتحاق بزميلهم وضّاح الصادق الذي كان تفرّد إلى جانب زميل له بتأييدهما له في جلسة الانتخاب السابقة. وقالت إن خلف يحاول من حين لآخر الإبقاء على قنوات التواصل بين زملائه النواب، وهو يحاول تدوير الزوايا ولا يبادر إلى الامتناع عن التواصل مع النواب الذين هم على تباين معه وآخرين ممن يفضّلون عدم الالتحاق بأي من المحورين التقليديين، ويصرّون على دعم مرشح خاص بهم لرئاسة الجمهورية، وكان آخرهم خليفة.

ورأت المصادر بأن الوضع بين النواب السُّنّة من غير المنتمين إلى محوري المعارضة التقليدية ليس أفضل من وضع النواب التغييريين، خصوصاً بامتناع ثلاثة منهم عن تأييد معوض بعد أن كانوا أيّدوه في دورة الانتخاب الأخيرة، وقالت بأن عزوفهم عن تأييده يعود إلى رغبة النواب المستقلين في التموضع في الوسط بين المعارضة و«الممانعة»، كشرط للعب دور وازن في انتخاب رئيس للجمهورية، خصوصاً أن الانقسام العمودي بين هذين المحورين من شأنه أن يعزز الحاجة إليهم؛ كونهم يشكّلون بيضة القبّان لترشيح كفة المرشح الرئاسي الذي يحظى بتأييدهم.

وأكدت المصادر نفسها أن النواب الذين يقدّمون أنفسهم على أنهم من المستقلين يلتقون أسبوعياً بدعوة يتناوب عليها النواب الأعضاء، وإن كان يشارك من حين لآخر نائب أو أكثر من الطائفة السنّية من المنتمين إلى القوى التغييرية. وقالت بأن الرأي بين النواب المستقلين وجميعهم من الطائفة السنّية ليس موحداً؛ لأن من بينهم من هو عضو في كتلة نيابية، إضافة إلى أن بعضهم كان اقترع سابقاً لمعوض قبل أن يبدّل موقفه في جلسة الانتخاب الأخيرة.

وكشفت بأن الجامع الوحيد بين النواب السنّة المستقلّين المطعّمين بنواب من كتل أخرى، يكمن في إصرارهم على إجراء الانتخابات الرئاسية، فيما هم على خلاف حول ضرورة تشريع الضرورة والذي بدأ يظهر للعلن بين فريق مؤيد، مشترطاً ألا يكون مفتوحاً على مشاريع واقتراحات قوانين يمكن تأجيلها، وآخر يرفض في المطلق التشريع بذريعة أنه يمكن أن يؤدي إلى تمديد الشغور في رئاسة الجمهورية.

لذلك، فجلسة اليوم لن تحمل أي جديد سوى تظهير الخلاف إلى العلن بين الثنائي الشيعي وبين باسيل الذي كان صارح نصر الله، ومن ثم رئيس المجلس النيابي بري، برفضه إخلاء الساحة لفرنجية وإصراره على موقفه بالاتفاق على مرشح رئاسي بديل، وكان جوابهما قاطعاً بإقفالهما الباب أمام البحث باقتراح من هذا القبيل.

فباسيل يتصرّف في العلن بأنه ليس مرشحاً لرئاسة الجمهورية، لكنه في المقابل يقدّم نفسه في الداخل وفي الخارج على أنه الأقوى ويتمتع بحيثية نيابية وبشعبية مسيحية يفتقد إليهما فرنجية، وبالتالي يحق له المطالبة بالتوافق على مرشح بديل، وهذا ما أبلغه إلى عدد من النواب الفرنسيين الذين التقاهم في باريس.

وعليه، فإن الجامع الوحيد بين محوري الممانعة والمعارضة يكمن في أن الأول لا يزال يتخبّط ويدور في حلقة مفرغة، بعد أن عجز حتى الساعة عن إقناع باسيل بإخلاء الساحة لمصلحة فرنجية الذي لن يحرق المراحل بإعلان ترشُّحه رسمياً، وإن كان هناك من يقول في الثنائي الشيعي بأنه يتحفّظ على ترشيحه، ولن يفرج عن قراره إلا عندما يتأكد بأن الطريق أصبحت سالكة لانتخابه.

وفي المقابل، فإن المعارضة التقليدية تواجه صعوبة حتى الساعة في تجاوز أو في التخفيف من أضرار تتعلق بعدم قدرتها على تسجيل اختراق في صفوف النواب المستقلين من الطائفة السنّية بعد أن تراجع ثلاثة منهم عن انتخاب معوض، مع أنهم يتصرّفون وكأنهم في صلب المعارضة، فيما نجحت في فتح قنوات للتواصل مع عدد من النواب التغييريين، وهذا ما سيحمله اليوم صندوق الاقتراع من أصوات لنواب منهم.

ويبقى السؤال: هل كان باسيل مضطراً لحرق المراحل بإعلان رفضه تأييد فرنجية وما يترتّب عليه من تداعيات تؤثر سلباً على علاقته بـ«حزب الله»؟ وهل كان مضطراً للتمايز عن الحزب كممر إجباري للتواصل بطريقة أو بأخرى مع الإدارة الأميركية طلباً لرفع العقوبات المفروضة عليه؟ خصوصاً أنه يدرك صعوبة أن يكون له الخيار الفاعل للمجيء برئيس يؤمن استمرارية الإرث العوني من جهة، ويقطع الطريق على ما يتهدّده داخل «التيار الوطني الحر» من مفاجآت لن تأتي لمصلحته من جهة أخرى.

مقدمات وممهدات غير متوفّرة

أشارت مصادر سياسية واسعة الاطلاع لـ"الجمهورية" الى انّ الحل للأزمة الرئاسية في لبنان يأتي من باب من اثنين، أو من البابين معاً:

الباب الأول، تسوية داخلية، لكنها في الحال الراهن خارج الحسبان، فبمعزل عن التوهم بالقدرات والاحجام، فهذا الامر تنفيه حقيقة ان كل الاطراف الداخليين محشورون بعدم قدرتهم منفردين على الحسم وإمالة الدفة الرئاسية في اتجاه معيّن. يضاف الى ذلك ان كل ما تُعتبر مساحات مشتركة بين الاطراف الاساسية مهدومة، والتقاء هذه الاطراف على حلول وسط بات اكثر من مستحيل. واكثر من ذلك، اذا كانت ثمّة عقدة كبيرة تمنع التوافق على مرشح بين من يسمّون انفسهم سياديين، وبين خصومهم الممتدين من ثنائي حركة "امل" و"حزب الله" وصولا إلى التيار الوطني الحر وسائر الحلفاء، الا ان ذروة التعقيد قائمة بين "الثنائي" و"التيار"، جرّاء اصرار رئيس التيار النائب جبران باسيل على قطع الطريق على المرشح المدعوم من "أمل" و"الحزب" لأسباب يتداخل فيها السياسي بالشخصي. وخلاصة هذه الصورة المعقدة، ان باب التسوية الداخلية موصَد تماماً.

الباب الثاني، تسوية خارجية، ولكن اي تسوية رئاسية خارجية يفترض ان تقترن بمقدّمات تمهيدية لها ومتممة لها في الداخل، وهذه المقدّمات غير متوفرة حالياً، او بمعنى أدق لا توجد في الجو الداخلي المعقّد أرضية ملائمة لتقوم عليها أي تسوية خارجية. قد يطرح البعض إمكان فرض تسوية على اللبنانيين، وهذا الامر بالتأكيد يدغدغ اذهان اصحاب منطق "غلبة فئة على فئة"، ولكن لنفرض انه مدرج في دائرة الاحتمالات، فمن يضمن أن يكتب النجاح لتسوية كهذه؟ الجواب بسيط، فواقع لبنان بتعقيداته واصطفافاته يدركه العالم الخارجي ربما اكثر من اللبنانيين انفسهم، ويدرك ايضا ان أي خطوة بالفرض، من شأنها أن تخلق وقائع غير محسوبة تزيد الواقع اللبناني تعقيدا وتفتحه على منزلقات رهيبة. فضلاً عن انّ العالم بأسره على دراية تامة بأن كل التسويات الرئاسية في لبنان ما بعد الطائف، تمّت بممهدات لبنانية داخلية لها. فعندما تتوفّر الممهدات الموضوعية تصبح في حاجة الى "لمسة خارجية" لبلورة الحل. ومن دونها سيبقى الفراغ في سدة الرئاسة الاولى مراوحا لشهور وشهور، والبلد يغرق اكثر فأكثر في وحول الازمة.

إطلاق مسعى تجاه لبنان.. ما هو موقف السعودية وفرنسا وإيران؟

الصورة الخارجية المرتبطة بالملف اللبناني، وبرغم ما يحكى عن تحضير لإطلاق مسعى خارجي تجاه لبنان، ما زالت مشوبة بالغموض على ما يقول مصدر ديبلوماسي لـ"الجمهورية"، مضيفاً انّ "الإشارات التي نسمعها حول هذا المسعى مشجعة، لكننا حتى الآن لا نملك أي قرائن أو دلائل تؤكدها".

ويقرأ المصدر الديبلوماسي صورة المواقف الخارجية كما يلي:

أوّلاً، الموقف الاميركي ملتزم سقف دعوة اللبنانيين الى التسريع في انتخاب رئيس الجمهورية، ولا يوحي من قريب او بعيد بمبادرة اميركية احادية او تحرك اميركي مباشر تجاه لبنان.

ثانياً، باريس تُبدي حماسة ملحوظة تجاه الملف اللبناني، وإن كانت بعض الاوساط الفرنسية لا تستبعد اطلاق الرئيس ايمانويل ماكرون مبادرة ما تجاه لبنان، الا ان الرئيس الفرنسي لا يريد تكرار التجربة السابقة بسقوط المبادرة الفرنسية التي اطلقها تجاه لبنان بعد الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت في العام 2020، ومن هنا تتحرك باريس في اتجاهات دولية متعددة، وعلى وجه الخصوص مع الاميركيين والسعوديين، لحشد الدعم لأي مبادرة وعناصر الحل للازمة الرئاسية في لبنان.

ثالثاً، على الرغم من اندماج المملكة العربية السعودية مع الفرنسيين في مقاربة الملف اللبناني، والالتقاء مع الفرنسيين على وجوب ادخال الملف اللبناني الى دائرة الانفراج، الا انه لا توجد اي مقدمات سعودية في الوقت الراهن توحي بمقاربة حثيثة وعميقة للملف الرئاسي اللبناني، كما لم تبدر اي اشارة سعودية مباشرة حول «مواقف نوعية» من الاستحقاق الرئاسي.

رابعاً، ايران تظهر انها غير معنية بالملف الرئاسي اللبناني، بوصفه شأنا داخليا يعني اللبنانيين، ولا تشكل عاملا معطّلا او مقررا في هذا الاستحقاق، ذلك ان الامر متروك لحلفائها في لبنان، الا ان ثمة من يتحدث عن أن القطريين والفرنسيين يطرقون الباب الايراني ربطا بهذا الاستحقاق.

خامسا، الفاتيكان يقارب الملف اللبناني بنظرة قلقة جدا، والتقارير التي ترد تؤكد ان الكرسي الرسولي يستشعر مخاطر كبيرة مُحدقة بلبنان على الصعد كافة، لا سيما على صيغة العيش الواحد بين جميع اللبنانيين ومصير المسيحيين في لبنان. وتجلى ذلك في أمرين: الاول، الدعوة العاجلة التي اطلقها البابا فرنسيس من البحرين قبل فترة قصيرة، وحَثّ فيها السياسيين اللبنانيين على التوافق وتنحية مصالحهم والمسارعة في انتخاب رئيس للجمهورية. والثاني، الحركة الديبلوماسية التي اطلقها الفاتيكان في اتجاه دول القرار لمساعدة لبنان على انتخاب رئيس للجمهورية واعادة تكوين سلطاته.