في وقت لا يزال فيه السجال قائماً بين الأفرقاء اللبنانيين حول نصاب الدورة الثانية لانتخاب رئيس للجمهورية، جاء موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي، ليشكل إحراجاً بالنسبة إلى الذين يدافعون عن نصاب الثلثين، على رأسهم الأحزاب المسيحية، المتمثلة بحزب «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، الذي يتقاطع مع موقف فريق «حزب الله» وحلفائه، على رأسهم رئيس البرلمان نبيه بري، الذي تعود له الكلمة الفصل في إدارة جلسات الانتخاب.

وبعدما كانت قد شهدت الجلسة ما قبل الأخيرة لانتخاب الرئيس سجالاً بين بري ونواب معارضين، أبرزهم رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» النائب سامي الجميل والنائبان ملحم خلف وفراس حمدان، على خلفية المادة القانونية التي يستند إليها بري في اعتبار النصاب المطلوب للدورة الثانية 86 نائباً، إضافة إلى إقفاله الدورة الأولى، وهو ما ينتقده النواب داعين إلى ترك الجلسة مفتوحة، كما إلى اعتماد النصف زائداً واحداً وليس الثلثين، أطلق الراعي الأحد من روما، موقفاً لافتاً ما من شأنه أن ينعكس على مقاربة الأفرقاء لهذا الموضوع.

وقال الراعي، «بقطع النظر عن العرف القائل بوجوب نصاب ثلثي أعضاء مجلس النواب في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، يجب ألا ننسى المبدأ القانوني القائل: (إن لا عرف مضاد للدستور)». وأوضح: «الدستور بمادته 49 عن انتخاب الرئيس بثلثي الأصوات في الدورة الأولى، وفي الدورة التالية وما يليها بالأغلبية المطلقة (نصف زائداً واحداً)»، سائلاً: «فلماذا إقفال الدورة الأولى بعد كل اقتراع، وتعطيل النصاب في الدورة التالية خلافاً للمادة 55 من النظام الداخلي للمجلس؟ لا يستطيع المجلس النيابي مواصلة التلاعب والتأخير المتعمد في انتخاب (رئيس للدولة يؤمن استمرارية الكيان والمحافظة على النظام). فما هو المقصود؟ أعكس ذلك؟ أعدم فصل السلطات؟ أمحو الدور الفاعل المسيحي عامة والماروني خاصة؟».

هذا الموقف رأى فيه «الكتائب» دفعاً لموقفه، بينما رفض «القوات» وضعه في خانة الإحراج بالنسبة إليهم، معتبراً أنه لا يتعارض مع ما يدعون إليه، وهو ترك الجلسات مفتوحة إلى حين انتخاب رئيس.

في المقابل، ترفض مصادر «القوات» اعتبار موقف بكركي مخالفاً لموقفها، رغم أن النائب جورج عدوان كان واضحاً في الجلسة ما قبل الأخيرة بإعلانه تأييد نصاب الثلثين. وتحرص «القوات» كذلك على الرد في الإطار العام، معتبرة أن هدف الراعي الضغط على الكتل النيابية وعلى رئيس البرلمان. وتقول لـ«الشرق الأوسط»، «لا يتعارض موقف الراعي مع موقفنا الذي ندعو خلاله إلى إبقاء جلسات الانتخاب مفتوحة، ونعتبر أن كل مسألة النصاب ساقطة، وعلى النواب حضور الجلسات والبقاء في المجلس إلى حين انتخاب رئيس في وقت يستعمل البعض الدستور مطية للتعطيل».

من جهتها، ترفض مصادر نيابية في كتلة بري الرد أو التعليق على موقف الراعي، وتدعو إلى انتظار جلسة الخميس المقبل، وكيف سيقارب رئيس البرلمان طرح الراعي. وتشدد مصادر بري على أن «الحل يبقى بالتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية»، وتكتفي بالقول لـ«الشرق الأوسط»: «العرف الذي دعا الراعي لكسره يلتقي ولا يتعارض مع الدستور، منذ عام 1926، أي قبل اتفاق الطائف وبعده.

حيث كانت انتخابات الرئيس تنطلق من نصاب الثلثين»، وتسأل «إذا كان الدستور بحاجة إلى نصاب الثلثين لتعديله فكيف يتم انتخاب الرئيس بأقل من الثلثين؟».

الملف الرئاسي: مشاورات ولا اختراقات .. واشنطن تستعجل الرئيس والاصلاحات

كانت لافتة للانتباه في هذا الاطار، النبرة الغاضبة التي قارب بها البطريرك الماروني بشارة الراعي من روما، ما اعتبره التعطيل المتعمّد لانتخاب رئيس الجمهورية، ملقيا بمسؤولية هذا التعطيل على مجلس النواب. وملاقيا بذلك دعوات بعض النواب التغييريين الى ابقاء جلسات المجلس الينابي مفتوحة حتى انتخاب رئيس الجمهورية.

التعطيل سياسي

واذا كان ثمة من يعتبر ان غضب البطريرك الراعي مبررا، ومنطلقه موضوعي رافض لاستمرار الخلل في الموقع الماروني الأول في الدولة المتمثل في الفراغ في رئاسة الجمهورية، الا ان العامل المانع لملء هذا الفراغ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكما تقول مصادر مجلسية لـ"الجمهورية": "سببه الاول والاخير الانقسام السياسي في البلد، والصراعات والتناقضات ومنطق التحدي القائم، خصوصا بين المكونات المسيحية والمارونية تحديدا، التي تستحيل معها صياغة توافق على شخصية توافقية لرئاسة الجمهورية. فهذا التوافق إن حصل يؤدي حتما الى انتخاب فوري لرئيس الجمهورية، ودون هذا الاتفاق، سيستمر هذا الخلل قائما بلا سقف زمني، هذه هي حقيقة المشهد الرئاسي لا اكثر ولا أقلّ".

ولفتت المصادر الى "ان اثارة موضوع النصاب لا تقدم اكثر من اثارة مزيد من الغبار في الاجواء السياسية". وقالت: المسألة ليست مسألة نصاب انعقاد او نصاب انتخاب، فالآلية التي تحكم انتخاب رئيس الجمهورية واضحة ومعمول بها دستورا وعرفا منذ ما قبل الطائف وبعده، وبالتالي لا حياد عنها على الاطلاق لجهة ان نصاب الانعقاد والانتخاب هو نصاب الثلثين، بل ان هذه المسألة تثار لتغطية التناقضات وتصادم التوجّهات السياسية حيال الملف الرئاسي".

وردا على سؤال حول عدم فتح دورة انتخابات ثانية في جلسات الانتخاب، قالت المصادر: في المبدأ لا موجب لأي تأخير في انتخاب رئيس الجمهورية، ولكن اللعبة البرلمانية هي التي تحكم في نهاية الامر، فكما ان حضور الجلسات الانتخابية واتمام نصابها حق للنواب، كذلك عدم الحضور وافقاد النّصاب حق لهم، وجزء من اللعبة البرلمانية والسياسية، وتبعا لذلك لا مخرج لهذا الامر سوى بالجلوس على الطاولة والتوافق".

مشاورات ولا اختراقات

الى ذلك، لم يحد المشهد الرئاسي القائم، قيد انملة عن حقل التعقيدات العالق فيه، ولا تشي الاجواء المرتبطة به الى اختراقات ممكنة في جدار التعطيل، ما يبقي الجلسة الانتخابية المقبلة معلقة على حبل الفشل. بما يؤكد ان مجلس النواب امام اخفاق ثامن في انتخاب الرئيس، يتنافس فيه النائب ميشال معوض مع الأوراق البيضاء.

وقالت مصادر مطلعة لـ"الجمهورية" ان رئيس المجلس النيابي نبيه بري سبق له ان حذر من تحول الجلسات الانتخابية في مجلس النواب الى مسرحية وهو ما اكده مسلسل الجلسات الفاشلة. واجواؤه ربطا بمجريات تلك الجلسات تعكس ضيقا من المراوحة في جلسات انتخابية مملة وغير منتجة وتكرر الفشل وتضيع الوقت من دون اي طائل. وهذا ما قد يدفع برئيس المجلس الى وقف هذا المسلسل، والاستعاضة عنه بعقد جلسات انتخابية متباعدة، لعل ذلك يفسح في المجال لاجراء اتصالات ومشاورات،

واكدت مصادر سياسية موثوقة لـ"الجمهورية" ان الاتصالات الداخلية شبه مجمّدة، حيث لم تبد مكونات الانقسام الداخلي ايّ رغبة في فتح قنوات التواصل، بل هي مقيّدة نفسها في منحى التصعيد والتوتير السياسي، ربما في انتظار بروز معطيات ورياح خارجية تهب على الملف الرئاسي.

ولفتت الى ان الرئيس بري وعلى الرغم من تعليقه لمبادرته الحوارية، اكد انه لن يبقى مكتوف اليدين حيال الأزمة الرئاسية، ومن هنا جاءت فكرة المشاورات الثنائية، الا ان المسعى المنتظر من قبل الرئيس بري لم يتبلور بصورته النهائية بعد، فالهدف الاساس لأي خطوة يقوم بها هو تعبيد الطريق الى انتخاب رئيس للجمهورية بالتوافق فلرئيس مجلس النواب نبيه بري مقولة دائمة مفادها ان يدا واحدة لا تصفق. وهو تبعا لذلك لن يقدم على أي خطوة يكون مصيرها الدوران في الحلقة المفرغة، بل ان ما سيبادر اليه سيخبّر عن نفسه بنفسه، حيث تحدّد اوانه الظروف الملائمة له، وهي لا تبدو متوفرة حتى الآن.

مشاورات بين الحلفاء

وبحسب متابعين للمشهد الرئاسي، فإنّ صورة المواقف الداخلية تعكس انسدادا كاملا، حيث ان المصنفين في خانة المعارضة، لم يتمكنوا من تجميع صفوفهم والالتفاف حول من يسمونه مرشّحا سياديا، والجبهة الداعمة لترشيح النائب ميشال معوض تعاني التصدّع، وهو الامر الذي يبقي النسبة التي ينالها في حدود الاربعين صوتا، ويهدد بانخفاضها اكثر، والواضح في هذا السياق الافتراق الكامل بين القوات اللبنانية وغالبية النواب التغييريين.

واما في الجهة المقابلة، فإن ثنائي حركة "أمل" و"حزب الله"، لم يتمكنا بعد من حشد الدعم لمرشحهما، وفي هذا الاطار، اكدت مصادر موثوقة لـ"الجمهورية" ان مشاورات "حزب الله" مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل دارت في حلقة مفرغة نتيجة التصلب الذي يبديه باسيل حيال المرشح المدعوم من الحزب، ورغم ذلك فإنّ الحزب لم يغلق باب التواصل والتشاور مع باسيل، فالتواصل مستمر بعيدا عن الضوء، علما ان الحزب يقرّ بوجود صعوبات جدية في هذه المهمة، إلا انّه لا يرى ان الباب مقفل على امكان حدوث اختراق في اي وقت.

الدفع الخارجي

الى ذلك، وفيما أكد مرجع مسؤول لـ"الجمهورية" أنّه ما يزال على تفاؤله في امكان حسم الملف الرئاسي في المدى القريب، مشيرا الى ما سماها "اتصالات جدية جدا" تجري على مستوى الداخل، متواكبة مع قنوات ديبلوماسية مفتوحة في اكثر من اتجاه خارجي، والفرنسيون متحمّسون لانضاج انتخابات رئاسية توافقية، وخلافا لما يتردد داخليا، لا "فيتو" على أي من المرشحين.

دفع أميركي

الى ذلك، عكست زيارة وفد الكونغرس الأميركي الى بيروت، تأكيدا متجددا من الولايات المتحدة الاميركية على وجوب اتمام لبنان لاستحقاقاته الدستورية وفي مقدمها انتخاب رئيس للجمهورية.

وبحسب معلومات "الجمهورية" فإن الوفد اكد خلال لقاءاته مع كبار المسؤولين اللبنانيين، الموقف الاميركي لناحية الحرص على استقرار لبنان، والدعم لمؤسساته الامنية وفي مقدمها الجيش اللبناني. ونظر بايجابية بالغة الى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسارائيل.

وتضيف المعلومات ولا يوافق المرجع على ما قيل عن ان شهر كانون الاول المقبل، هو شهر ميّت رئاسيا، ربطا بعطلتي الميلاد ورأس السنة، وقال: لا توجد أيّ عطلة، حيث ان كل الاحتمالات ممكنة، والتسوية الرئاسية واردة في اي لحظة، ولبنان بلد المفاجآت ومن ضمنها اننا قد ننام على سلبيات، ونستيقظ على انتخاب رئيس.