الإيمانُ والمَعرِفةُ، والتَّوْبةُ ثالِثُهما. الأولى رَجاءٌ والثَّانِية إدراكٌ والثَّالِثة كَمالهُما.

مَع هَذِه الكَلمات الثَّلاث نَقترِبُ مِن عيدِ ظهور الله في الجَسَد، الذي هو عِيدُ الْميلادِ المَجيد. نَقترِبُ اقتِرابًا حَسنًا، كما يُريدُ مِنّا المَولودُ الإلهيُّ أن نَقترِبَ إليه.

الإيمانُ: هو أن نُؤمِنَ حَقًّا بِكلِّ كَيانِنا أنَّ الرّبَّ يَسوعَ المَسيح قد تَجَسَّدَ وَصارَ إنسانًا مِن أَجلِ خلاصِنا. صَيرورَتُه إنسانًا لم تُلغِ إطلاقًا ألوهيّتَه، فَهُوَ إلهٌ تامٌّ وإنسانٌ تامّ. هذا التَّدبير يَفوقُ العُقولَ البَشَريَّة، ولا يُدرَكُ إلّا بالمَحبَّة، لأنَّ الذي يُحبُّ الآخرَ يأتي إليه. وهذا تَمامًا ما فَعلَه الرّبُّ مَعنا.

المَعرِفة: تَتوَّقَفُ على أن نُدرِكَ إيمانَنا المَسيحيَّ حَقَّ الإدراك. فالرّبُّ يَسوع ما انفكَّ يَقول لِليهود:

"فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي[1]" وهذا ما أعلَنَه بِشَكلٍ جَلِيٍّ يَومَ السَّبت في مَجمَع النَّاصِرَة الْيَهُودِيّ، بعدَ أن قَرَأَ عليهم مِن سِفرِ إِشعياءَ النَّبيّ عن مَجيء المَسيح وعَمَلِهِ الخَلاصيّ، قال لليهود: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ[2]"، قاصِدًا نَفسَه بِذَلِك.

وهذا ما قالَهُ أيضًا للمَرأَةِ السَّامِرِيَّةِ عِندما أَعلَنَتْ لَه: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ[3]".

كَذَلِك عِندما تاهَ التلاميذُ بعدَ صَلبِ الرَّبّ وَقيامَتِه، ظَهَرَ لَهُم يُشَدِّدُهم، وأيضًا سارَ مَع تِلميذَي عِمواس و"ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُب[4]". وَهو دائمًا على أَتَمِّ الاستعداد أن يَفعلَ الشيءَ نفسَه معنا إن حقًّا طلبناه بِصِدق. فإيمانُنا إذًا مبنيٌّ على المَعرِفة، وهُوَ ليسَ بَبَغائيًّا أو مبنيًّا على الجَهْل. عَلينا أن نُدرِكَ حَقًّا ما نُؤمنُ به، وبِمَن نُؤمِن.

لِنلاحظ جيّدًا، العالمُ يَجرُفُنا كُلَّ يَومٍ بِشَتّى الطُرُق، خاصَّةً بِالتَعاليم الضَّالَّة حَولَ شَخصِ "يَسوع".

فَما الذي يَمنَعُنا أَن نَأخذَ مَوضوعَ الإيمانِ بِجَدِيَّةٍ أَكثر وتدقيق، تَمامًا كما افتَتَحَ لوقا الإنْجيليُّ الطَّبيبُ إِنْجيلَه: "تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق[5]"؟.

لقد أَبدَعَ الرُّسلُ الأطْهارُ وآباؤنا القِدّيسونَ في التَّدقيق، ولم يَقبلوا أمرًا، مهما كان صغيرًا، إلّا بَعد فَحصٍ دقيق. لِنَقرأْ مَثَلًا ما أوصانا بهِ الرَّسولُ بولس: "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ[6]".

للأسفِ الشَّدِيد! فَنَحنُ اليوم نادِرًا جِدًّا ما نَمتَحِنُ التَّعاليمَ التي نَتلقَّفُها مِن هُنا وهناك، والأسوأ عِندَما لا نَتَمَسَّكُ بالحَسَن ونستبدله بالسُّوء.

لا يَغضَبَنَّ أحدٌ إذا قُلنا إِنَّ هُناكَ جَهلٌ إيمانيٌّ مُخيف، وبُعدٌ كَبيرٌ عنِ الرّبِّ يَسوع المَسيح، والعَملِ بِوصاياه وعَيشِ إنجيلِه. فهذا ما يَجعلُ القَلُوبُ تَجِفُّ وتَقْسو أَكثرَ فَأكثَر.

هذا الأمر يَشمَلُنا جَميعًا، إكليريكيّينَ وَعَوام. فَكُلُّنا نُخطِئُ وَبِحاجَةٍ إلى نُورِ الله. حَبَّذا لو نَعرِفُه، وليتَ مَن يَتَستّرُ بِهِ لِمَنافِعَ شخصيَّة أن يُصَحِّحَ مَقاصِدَهُ، أَو مَن نَسِيَ مَحبَّتَه الأولى للرَّبِّ أَن يَتوبَ إليه تَوْبَةً صادِقَة، ويبدَأَ حياةً جديدَةً مَع المَسيح بِذِهنٍ صافٍ وقَلبٍ نقيّ.

التَّوْبَة: يَستوقِفُني في هذا السِّياقِ صُورَةً مُلفِتَةً جِدًّا يُشيرُ إليها إنْجيلُ يَعقوبَ المَنحول، مِن القَرنِ الثَّاني ميلاديّ، يَتكلّمُ فيها على تَوَقّفِ كُلّ حَركةٍ في العالم عِندما آنَ أوانُ وِلادَةِ الطِّفْل يَسوع. فَيَقول إِنَّ يوسُفَ البارّ خَطّيبَ مَريمَ وَجَدَ في طَريقِهِ إلى بَيتَ لَحمَ مَغارَة، فَأَدخَلَ مَريَمَ إليها، وتَرَكَ ابنَهُ يَحرسُها، (إذ كان أَرمَلًا ولَه أَولادًا، وَقَد عُهِدَتْ مَريمُ إِليهِ لِتَكونَ على اسمِه)، وَأَكمَلَ سَيرَهُ لِيأتي بِقابِلَة. فاندهَشَ وهوَ في الطَّريقِ عِندما شاهَدَ أَنَّ كلَّ شَيءٍ مِن حَولِهِ كان دونَ حِراك: النُّجومُ والهَواءُ والطُّيُّور، والنَّاسُ يَنظرونَ إلى السَّماءِ دونَ حِراك. كذلكَ كانتِ النِّعاجُ لابثةً بأماكِنِها جامِدَة، والرَّاعي رافِعًا يَدَهُ قابِضًا بِها على عَصاهُ وجامِدًا، وكذلك كانتِ المِياهُ مُتَوَقّفَةً عنِ الجَرَيان. فكلُّ شيءٍ كان جامِدًا بِلا حِراك.

ما أَحوَجُنا اليوم إِلى هذا المَشهد، وما أَحوَجُنا إِلى أَن نَتَوَقّفَ للَحظَةٍ عن الدَّوَرانِ الفارِغِ والسَّيرِ إِلى اللاشَيءِ والعَدَمِيَّة! هذِهِ لَيستْ نَظرَةً تَشاؤمِيَّة إِطلاقًا، بل هي مُراجَعَةُ حِساباتٍ لَنَعي فِعلًا أينَ نَحن، وإِلى أينَ نَذهب.

كلُّ شيءٍ حَولَنا يَسيرُ بِسُرعَةٍ مَهولَة، ولَكِن في الوَقتِ نَفسِهِ هُناكَ أَمرٌ غَريبٌ جِدًّا. فالتِّكْنُولُوجِيَا تَتقدّمُّ تَقدُّمًا كَبيرًا على كُلِّ الأَصعِدَة، أَمّا القِيمُ الإِنسانِيَّة فَلا، فِهيَ في تَراجُعٍ مُخيف.

الأنانيّةُ طاغيةٌ بشَكلٍ مُفزعٍ ووَحشِيّ: الأفراد، العائلات، العِلاقات بين البَشر، التَّنازع بين الدُّوَل، المَحبّة، الصِّدْقُ، الوَفاء، الاعتِذار والرُّجوع عن الخَطأ...

أمّا بالنسبَةِ للمفاهيم، فَحَدِّث ولا حَرَج: الحُريّة، الأب، الأم، الزواج، الإنْسان بِحَدِّ ذاتِه ذَكرًا كان أو أُنثى، كلّه ضَياع بِضَياع. الفَنُّ في مُختَلف ميادينه أصبَح هابِطًا بِنسبَةٍ عاليةٍ جِدًّا. إختصاصاتٌ تَملأ الدُّنيا، ولكن دونَ ثقافة، والأخيرة أصبَحت شِبهَ مَعدومة.

فالإنْسانُ بالرِغمِ مِن تَطوّرِه يَسيرُ مُسرِعًا إلى تَدمير ذاتِه. نشرات الأخْبار أصبحت نَشرات مآسي، والمَرْءُ في حالةِ تَوَتّرٍ شِبهِ دائِمة، فَهوَ يَخافُ مِن سَماع أيِّ شَيءٍ جَديد.

أدويةُ الأعصابِ والمُهدِّئاتُ والأدْوِيَةُ التي تساعدُ على النَّوم، هيَ الأكثرُ مَبيعًا في العالَم كُلِّه. نِسبةُ الانْتِحارِ بارتفاعٍ مُتَزايد. جِيلٌ جَديدٌ يَشتَكي مِن نُقصانٍ في العاطفة.

طَبعًا هُناكَ أمورٌ جَيِّدَة في العالَم، ولكن ما ذُكِرَ هُنا هُوَ أكثر مِن صَحيح. إذًا ما هُوَ الحل؟ وكيف نُصَحِّحُ كُلّ هذا؟.

الجَوابُ كلمةٌ واحِدَة: "الْمِيلاد".

هَذِه الكلِمة الرَّائِعة الَّتي تَعني الوِلادة الجَديدة. كيف لا وهِي وِلادةُ المُخَلّص الذي بِدخولِه إلى قُلوبِنا يُدخِلُ مَعَهُ الفَرحَ والسَّلامَ والنُّور، فيعود كُلٌّ مِنّا إِنْسانًا بِكلِّ ما للكَلمَةِ مِن مَعنًى، ساعَتَئِذٍ نَعي هَويَّتنا السَّماويّة.

في المَاضي البَعيد، حَمَلَ "Diogène" قِنديلًا وجابَ شَوارعَ أثينا في وَضْحِ النَّهار، وهوَ يَصرخُ وَيقول: "إِنّي أبحثُ عنِ الإنْسانيّة، أَبحثُ عنِ الإنْسان".

وفي العيدِ المُقبِلِ إِلينا، يَحملُ يوسُفُ خَطّيبَ مَريمَ العَذْراءِ قِنديلًا سَماوِيًّا، ويَطرقُ بابَ قلبنا راجِيًا أَن تَختَرِقَ طَرَقاتُه الصَّخَبَ الذي يُحيطُ بِنا ويُشَتِّتُنا، فيسألُنا يوسفُ: "هل هُناكَ مكانٌ في قلوبِكم لتدخُلَهُ العَذْراءُ فَتَلِدَ فيه طِفلَها الإلهيّ؟.

فإذا أتى جَوابُنا إيجابِيًّا، دخَلَت المَلائِكَةُ أَيضًا مَعَها يسَبِّحونَ ويُهلّلون. حينَئِذٍ نولَدُ مِن جَديد، ونُعلنُ بِفَرحٍ عَظيم: "المَجدُ للهِ في العُلى وَعَلى الأرضِ السَّلام وفي النَّاسِ المَسَرَّة".

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]. يوحنا ٣٩:٥

[2]. لوقا ١٦:٤-٢١

[3]. يوحنا ٢٥:٤-٢٦

[4]. لوقا ٢٧:٢٤

[5]. لوقا ٣:١

[6]. ١ تسالونيكي ٢١:٥