"قُلْ لي من تعاشر أَقُلْ لك من أنتَ". الحديث والإلفة مع شخص مثقَّف يُوصِلان الكثير من المعرفة. الإلفة مع المسيح يُكْسِبُنا الكثير من صفات السَّيِّد. كذلك، عشرة القدِّيسن تجلِبُ القداسة. هكذا، "مع البارِّ تكون بارًّا ومع الوديع تكون وديعًا ومع القويم تكون قويمًا"(مزمور 17: 25-26).

كلما جالستُ أو تحاورت مع اناسٍ يملكون الصفات المذكورة أعلاه، ولا سيما الفاهمين والمثقّقين ومن لديه خبرات الحياة، ويعيشون التقوى الصحيحة وفعل الخير، أشعر أنّني ما زلت لا أفقه شيئًا من هذه الحياة، وأجهلُ أمورًا كثيرة، لا سيما طريق الخلاص.

في حوارنا مع المعطائين بفرح، نسمع كلامًا يعجز كبار اللاهوتيّين عن قوله في محبة "الأخ الصغير" (متى ٢٥: ٤٠)، الذي ساوى يسوع نفسه به. هؤلاء يصحُّ فيهم قول الإنجيل: "لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ" (متى 25: 29). أشخاص يترجمون الإنجيل في حياتهم من خلال محبّة الفقير والمحتاج والمريض والعطشان والعريان والمسجون، وخاصّةً اليتيم. لا يكتفون بالكلام إنّما يترجمون أقوالهم افعالًا، سواء مباشرة أم عبر مؤسسات خيريّة، او من خلال رجال الله. أشخاص يحملون هذه الصفات، لا يمكن إلا أن تستطيب عشرتهم.

معرفتنا بهذه الفئة من الناس، تحملنا لكي نكون ساعين لترجمة الإنجيل أفعالًا في حياتنا. من هنا ينطبق المثل القائل "قُلْ لي من تعاشر أَقُلْ لك من أنتَ".

عندما جاء الشابّ الغنيّ مجرّبًا يسوع المسيح في كيفية الحصول على الحياة الأبدية، وبعد أن عرف السيّدُ مقصده وتحاور معه، قال له: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مرقس 10: 21)، فمضى حزينًا، يقول النص، لأنّه كان غنيًّا.

هذه الآية خبرتها الجماعةُ المسيحيّةُ منذ البدايات، مع الرسل الذين وجّههم يسوع نحو العمل البشاري وأوصّاهم قائلًا: "لا تَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ: لاَ عَصًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ فِضَّةً، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ" (لوقا 9: 3). أعلن المسيح لتلاميذه عدم حاجتهم للإمكانيّات الماديّة في خدمته، لأن الله، الذي وهبهم السلطان على الشياطين والأمراض، هو يكفي كلّ احتياجاتهم.

المسيحيّة لم تجرّم الغنى، لذلك نجد رجالًا أبرارًا أغنياء في الكتاب المقدّس، كابراهيم وأيّوب ويوسف الرامي وغيرهم، المشكلة في عبادة المال الذي هو أصل كلّ الشرور كما قال بولس الرسول: "أَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ" (1 تيموثاوس 6: 10). يحذّر بولس المؤمنين من محبّة المال واشتهاء الغنى، فهذا يعرضهم لتجارب كثيرة تؤدّي بهم إلى الهلاك، إذ في سعيهم للغنى يستخدمون طرقًا خاطئة ويتعرّضون للكبرياء وخطايا مختلفة، وأكثر من هذا، يضعها الرسول من الخطايا الأمّهات التي تولِّد شرورًا كثيرة، فيتنازل الإنسان عن إيمانه لأن محبّة المال أصبحت هدفه، وبذلك تتعذب نفسه من كثرة الخطايا.

فلننقِّ أنفسنا من الطمع وكثرة السيئات، ولنجعلها نفسًا محبّة للخير والعطاء والسعادة والقناعة.

في طريقنا إلى الميلاد، لن نرحمَ الأغنياء مهما تضايقوا أو نفروا، فمن واجبنا أن نحثّهم على العطاء لمساعدة المعوزين. فلنبادر نحن أولًا، أيّ الكنائس وخدامها، لنكون في طليعة المعطائين، ونكون مثالًا في ذلك. هكذا كانت الكنيسة وهكذا يجب أن تبقى. حجارة الكنائس التي علينا أن نحصّنها ونصونها، هي كلّ محتاج ومعوز ومريض ويتيم، هؤلاء الحجارة الحيّة التي علينا الاعتناء بها. هكذا يشعرُ المسيحُ أنّ الناس تقدّمُ له الدفء في مغارة أخيه الصغير.