لَيسَ ​لبنان​ بإيديولوجيا. هَذِهِ عاطِفَةٌ جَنَحَت فَتَجَمَّدَت وما عادَت قادِرَةً على التَكَيُّفِ ولا سُلوكَ سُبُلِ التَطَوِّرِ. نَصيرُها الأفولُ عند أوَّلِ مُنعَطَفٍ، مَهما تَسَربَلَت بِلُبوسِ القَومِيَّةِ وتأطَّرَت بِسُلطانِ القوَّةِ ومَزاعِمهِ.

أما يَكفي لبنان إسمَهُ للإحاطِةِ بِهِ، كما الجامِعُ يُحيطُ بِمَفهومِهِ؟ في الواقِعِ، إنَّ كِفايَةَ لبنان هيَ في إسمِهِ الرابِطِ بَينَ الكَيانِ والأبعادِ، بَينَ الغايَةِ أيّ نِهائيَّةِ القيمَةِ والإنسانيَّةِ أيّ بُلوغَ القيمَةِ الغائيَّةِ.

أفيهِ نَهَمٌ الى الإكتِفاءِ بِفَيضِ مَدارِكِهِ؟ لَيسَ في السؤالِ تَكرارٌ لِما سَبَق بَل إصرارٌ على تَطَوُّرِ هَذا الجَوهَرِ الذي إسمُهُ لبنان... وَما إرتَوى أنَّهُ الدَليلُ الى الوجودِ والى واجِبِ الوجودِ في آنٍ، إذ مِن لَدُنِهِ، وَبَما أوتيَ مِن وجودٍ، تَدليلٌ على ذاكَ الفَوق الذي مِنهُ كانَ وإنطَلَقَ.

فَلنَعتَرِفَ الآنَ، أنَّهُ اقوى مِن نِضالِ تأمُّلٍ فَحَسب. وَما عَداهُ لَيسَ هوَ، لا بَل لَيسَ مَثيلَهُ حتَّى.

إنَّهُ أيقونَةٌ! قُلّ مَعي: إرتِباطُ إيمانٍ بالتَحَقُّقِ. لِأحَقِّيَتِهِ تَنحَني الإراداتُ، وَهوَ يُجازي مَن إلَيهِ يَصبو حُرِّيَةً وإنتِماءً. ألَم يَلفُظ مَن كانوا أدنى مِنهُ مِن أبنائِهِ، تَماماً كأولَئِكَ الَذينَ تَجاسَروا عَلى مَسِّ طُهرِهِ؟ بَل أكثَر بَعدُ: ألَم يَرقى بِمَن يَبحَثُ عَن إستِكشافِ حَقيقَتِهِ الى أعلى مِنَ المادَّةِ، لأنَّهُ لا يُقاسُ بالمادَّةِ، ولا يُجَزَّأُ بإستِعبادٍ؟ وَحدُهُ القاصِرُ المُمسِكُ بالمُتناقِضاتِ، أو المُتَرَبِّصُ بالصِراعاتِ عَلى حَدٍّ سَواءَ، لَم يُعطِهِ لبنان أن يَكونَ مَدلولَهُ.

قَد يؤمِنُ أحَدُهُم أنَّهُ مُنبَثِقٌ مِن أصولٍ كَنعانِيَّةٍ، آراميَّةٍ، آكاديَّةٍ، حِثيَّةٍ... تَجَغرفَت إذ تأرَّخَت. لَكِنَّها كُلُّها، مَهما تَلَوَّنَت بأسماءَ إتنيَّةٍ أو ثَقافيَّةٍ لَيسَت إلَّا مِن قَبيلِ غَيبيَّاتٍ خَلفيَّةٍ إيّ تَدَيُّنٍ ضَيِّقٍ، وَلَو كانَت إضاءاتٍ مِن شُهُبِ حَقيقَتِهِ. الفارِقُ بَينَها وَبَينَ الأيقونَةِ-لبنان كَما الفارِقُ بَينَ المَبدأ والتَحقيقِ. التَحقيقُ جِهارُ العقَلَنَةِ، أمَّا المَبدأ فَتَوقٌ مَفتونٌ بالجِهارِ... يَبقى تَوقاً إن لَم يَبلُغ مَدى التَحقيقِ.

أتَكونُ الأيقونَةُ-لبنان أعلى العَلِيَّاتِ المُحَقَّقَةِ التي لا تَخَطيَّ لَها؟ بَلا! هيَ لَيسَت بِقَفزَةِ بُرهانٍ بَل جَذريَّةَ تَوكيدٍ. مِنعَةَ نواةٍ. خاصِيَّةٌ.

بَدَهيَّةُ تَرسيخٍ

مِن حَقّيَ، أنا اللبنانيُّ المُمتَحَن أبَداً بِهويَّتي، حَسمُ المُجابَهَةِ الكُبرى بَينَ لبنان-الأيقونَةِ وَمَن يَبغونَ، أبَداً، فَرضَ نُكرانِهِ لِذاتِهِ والتَنَكُّرَ لَهُ، وَقد إستَعدوهُ، وَهوَ ما بِقارِىءٍ لَهُم، بِسَبَبٍ مِن لامِعناهُم.

هَؤلاء، مَن إنطَلَقوا، في الداخِلِ والخارِجِ، مِن الإستِخفافِ بِهِ أو الإستِعلاءِ عَلَيهِ، سَحابَةُ حَلقاتٍ تَفوتُها الأعاميقُ التي فيهِ، وَهوَ مِنها، مَهما إنتَفَخوا ونُفِخوا أبواقاً لقابِعينَ في القَصيِّ.

هَؤلاء، مَن يَلهونَ في مُجونِ صَعلَكاتٍ، مُرتَهَنونَ الى مَن يَرتَجِلُهُم. والأخطَرُ: رَهبوتُهُم أنَّهُم دَبيبُ الصَغائِرَ التي تَتَفاكَهُ بِمَن يَتَمَهرَجُ لَها. لَكِنَّ أوَّلُ مَن يَغدُرُ بِهِم: مُجونُ حَقاراتِهِم وَقَد تَشَيطَنَت بِما يَكفي مِن إستِرخاصِ أنفُسٍ... إن كانَت لَدَيهِم مِن أنفُسٍ لِفَحاوى أقدارٍ.

في التَرسيخِ إنفِتاحُ الإيقونَةِ عَلى أنأى النائيَّاتِ، وفي البَدَهيَّةِ زَخمُ لبنان في بُلوغِ أبعَدَ أبعَدَ الحواضِرَ غَير الماضِيَةِ الى شحناتِ الفَناءِ. فَكَيفَ إذا ما إتَّحَدَتِ الأيقونَةُ بِلبنان، ولبنان بالأيقونَةِ، كإتِّحادِ التَرَبُّصِ بالتَحَفُّزِ؟.

في ذا الإتِّحادِ، الواصِلُ والفاصِلُ.

كُلُّ أرضٍ وَكُلُّ سَماءٍ تَزولانِ، أمَّا هوَ فَلا يَزولُ لأنَّه عِرقَةُ الدَيمومَةِ.

كُثارٌ نَحنُ أمامَهُ، أم حَفنَةٌ مِن تَوقيرٍ إلَهيٍّ-إنسانيٍّ؟.

حَسبي أنَّ لبنان مِن تِلكَ الدَيمومَةِ. وَهمِّي أن نَتَمسَّكَ بِها حَتَّى... إجلالِ التَقديسِ وَجَلالِ القَداسَةِ!