صحيح أنّ جلسة مجلس النواب الأخيرة المخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية انتهت كسابقاتها على تكريس "الفراغ" كترجمة طبيعية لتفوق "الورقة البيضاء" المستمرّ على كلّ المرشحين، من دون تحقيق أيّ "خرق" يُذكَر، بعيدًا عن السجالات والاستعراضات الهامشية التي أضحت "مملّة"، والشعارات التي لا يزال البعض "يتفنّن" بوضعها في صندوق الاقتراع، وكأنّه في "سوق عكاظ"، لا في انتخابات لملء فراغ أكمل شهره الأول قبل أيام.

لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه الجلسة حملت بين طيّاتها "مفارقة" لا بدّ من التوقف عندها، ومنحها ما تستحقّه من قراءة وتحليل، تكمن تحديدًا في "رصيد" المرشح "شبه الجدّي" إن جاز التعبير، النائب ​ميشال معوض​، الذي لم يتخطّ هذه المرّة 37 صوتًا من قوى المعارضة التي تؤيّده، وهو ما يكاد يوازي ذلك الذي حصده في أولى جلسات الانتخاب، بفارق صوت واحد لا أكثر، ما أوحى بعودته إلى المربع الأول، بدل التقدّم إلى الأمام كما يطمح.

وإذا كان يحلو لمعوض تبرير هذا "التراجع" بالغياب الدوريّ لعدد من النواب الذين يؤيدونه بصراحة، سواء من أولئك المستقلّين، أو ممّن ينتمون إلى كتل تمنحه أصواتها بشكل مُعلَن، معطوفًا على قرار المجلس الدستوري استبدال نائبَين من المصوّتين له، بآخرَين معارضَين له، فإنّ هناك في قوى المعارضة من يعتبر أنّ خيار معوض قد "استُنفِد"، وأنّ الوقت قد حان عمليًا للبحث عن "استراتيجية بديلة" يمكن أن تكون مجدية أكثر.

يتذكّر هؤلاء أنّ الخيار رسا على معوض في الدرجة الأولى باعتبار أنّه "قادر" أكثر من غيره على "توحيد" نواب المعارضة بكلّ أطيافها وتشعّباتها، وتحديدًا أكثر من المرشحين "الطبيعيين" للأحزاب الأساسية، على غرار رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي يكرّر دائمًا أنّ قبوله بمعوض شكّل "تنازلاً" من جانبه، أو حتى رئيس حزب "الكتائب اللبنانية" النائب سامي الجميل، الذي قد يُصنَّف على أنّه "مرشح تحدّ" بدرجة كبيرة.

إلا أنّ الواقع أثبت أنّ ترشيح معوض لم يحقق الغايات المرجوّة منه، كما يقول بعض المحسوبين على المعارضة نفسها، إذ إنّ "أقصى طموح" الرجل بات الوصول إلى 50 صوتًا يقول إنّها باتت "في الجيب"، وهو ما لم يترجَم بعد في أيّ جلسة، ما يجعله شديد البعد عن حاجز الـ65 صوتًا المطلوب للفوز، والذي يدرك الجميع أنه ليس كافيًا، طالما أنّه لا يستطيع ضمان "حضور" 86 نائبًا لجلسة تفضي إلى انتخابه، وهو ما يتسبّب بتعطيل النصاب.

ولا ينفي هؤلاء وجود "تململ" داخل قوى المعارضة نفسها من التمسك بخيار معوض، وقد تُرجِم هذا الأمر بوضوح في الجلسة الأخيرة، حيث لم "تطابق" حسابات الحقل حسابات البيدر كما يُقال، إذ إنّ "الإحصاءات" بيّنت أنّ النواب الذين كانوا حاضرين في الجلسة، والذين يضعهم معوض ضمن "المؤيدين صراحة" له، لم يقترعوا جميعهم لصالحه، في "رسالة ضمنية" قرأها البعض على أنّها اعتراض على المضيّ بخيار لم يعد ممكنًا التعويل عليه.

بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ المشكلة الحقيقية في التمسّك بخيار ميشال معوض، دون بحث أيّ بدائل فعليّة، أنّه أضحى إلى حدّ بعيد شبيهًا بـ"الورقة البيضاء" التي يعتمدها الفريق الآخر، وكأنّه "تكتيك" يُعتمَد لتمرير الوقت ليس إلا، بانتظار نضوج "التسوية" التي يراهن عليها الجميع، علمًا أنّ هناك في المعارضة من لا يخجل في "التماهي" مع هذا الخيار، ويتمسّك بمقولة أنّ معوض مرشحه "حتى الآن"، ما يترك مجالاً للتغيير، عند لحظة "الصفقة".

لكلّ هذه الأسباب، ثمّة من يعتبر أنّ الوقت قد حان للتخلّي عمليًا عن خيار ميشال معوض، وفي جلسة الخميس المقبل قبل غيرها، ولو أنّ هذا الاحتمال يبقى مُستبعَدًا بالنظر إلى "التباينات" القائمة بين قوى المعارضة، المؤيّدة لمعوض قبل المعارضة له، على أن يعتمد الخيار الجديد على "معايير" مختلفة عمّا سبق، أقلّه من أجل "ضمان" التفاف كلّ النواب المستقلّين حوله، تفاديًا لتكرار مشهد "الانقسامات" غير المجدي ولا المفيد.

وفي هذا السياق، ثمّة من يعتبر في هذا السياق أنّ المبادرة التي أعلن عنها النائب نبيل بدر، معطوفة على "مبادرة الإنقاذ الرئاسي" التي سبق أن أطلقها نواب "التغيير"، قبل أن تطيح بتكتّلهم وتجعله عبارة عن مجموعات متفرّقة، يمكن أن تكونا "أول الغيث" في سبيل "توحيد المعارضة" على خيار يكون مقبولاً من الجميع، علمًا أنّ معوض نفسه قال إنّه جاهز لدعم أيّ مرشح تتفق عليه المعارضة، بل هو مستعدّ "ليخوض معركته"، وفق وصفه.

من هنا، فإنّ المطلوب من أحزاب المعارضة الكبرى والأساسية، وفق هؤلاء، أن تنزل عن الشجرة قليلاً، وتبحث هي عن "التقاطعات" مع القوى المستقلة والتغييرية، بعدما ثبُت أنّ الرهان على "جرّها" إلى معسكرها بكلّ بساطة ليس واقعيًا ولا ممكنًا، حتى لو نجحت في تحقيق بعض "الخروق"، كما حصل مثلاً مع النواب وضاح الصادق ومارك ضو ونجاة صليبا، وهي خروق "مستحيلة" مع عدد من النواب "التغييريين" الآخرين بالحدّ الأدنى.

ويبدو الرهان على "جرّ" المستقلّين إلى دائرة الأحزاب المعارضة بعيدًا عن الواقع، مثله مثل الرهان على "جرّ" معسكر "حزب الله" على تأمين نصاب الجلسات عاجلاً أم آجلاً، ولو كانت ستفضي إلى انتخاب من ليس راضيًا عنه، وهو ما تكذّبه "وقائع التاريخ غير القديم"، حيث استمرّ الفراغ لنحو سنتين حتى قَبِل الآخرون بشروطه، بعدما حققت جلسات الانتخاب رقمًا قياسيًا وصل إلى 46، يُخشى أن يكون هناك من يرغب بكسره اليوم.

لكلّ هذه الأسباب، يرى الداعون إلى البحث عن "استراتيجية بديلة" أنّ المطلوب الذهاب إلى خيار "لا يستفز" المعسكر الآخر بالحدّ الأدنى، ويشكّل نقطة "تلاقٍ وتقاطع" معه، من دون أن "يخضع" له في الوقت نفسه، أو أن يكون "رماديًا" لا لون ولا طعم له كما يقول البعض، وثمّة الكثير من الأسماء التي يمكن أن تندرج في هذه الخانة، خلافًا للقول الشائع، وبعضها طُرِح أو يُطرَح في الكواليس السياسية، وربما في الجلسات.

في النهاية، بات واضحًا أنّ الاستحقاق الرئاسي لن يُنجَز من دون "توافق" بين القوى السياسية، لتأمين تأييد 86 نائبًا بالحدّ الأدنى، مباشرة أو ضمنًا بالحضور على الأقلّ، وما عدا ذلك لا يندرج سوى في خانة "تضييع الوقت"، "تضييع وقت" يدان به المصوّتون بالورقة البيضاء بطبيعة الحال، ولكن أيضًا من يصرّون على المضيّ بترشيح شخصيات يعرفون سلفًا أنّ طريقها إلى بعبدا تصطدم بحائط مسدود يستحيل هدمه!.