نَقرَأُ في غُروبِ عيدِ الميلادِ المَجيد، أَيّ مَساءِ اليومِ السابِقِ للعيدِ، ثَماني قِراءاتٍ مِن العَهدِ القَديم.

القِراءَةُ الأولى مِن الإصحاحِ الأوَّل مِن سِفرِ التِكوين، تَتَكَلَّمُ على خَلقِ اللهِ للعالَم، وذلك تذكيرًا لنا أَنَّ كُلَّ ما خَلَقَهُ اللهُ "كانَ حَسنًا جِدًّا"، وأنَّ الإنسانَ مَدعُوٌّ في عيدِ الميلادِ أن يولَدَ مِن جَديدٍ مَعَ المَولودِ الإِلهيّ، ويُعيدَ البَهاءَ إِلى الخليقةِ لتَعودَ "حَسنًا" كما خَلقها الله.

القراءَةُ الثّانيةُ مِن سِفرِ العَدد، نَقرأُ فيها نُبوءَة بَلعام التي نَطَقَ بِها بِالرُّوحِ القُدُس مُتَنَبِّئًا عَن مَجيءِ المَسيح[1]. وهذه النبوءَةُ لها جِداريَّة مِن القرنِ الثّالث الميلادي في دَياميسِ روما.

القِراءَةُ الثّالثةُ نُبوءة مِن سِفرِ ميخا النَّبِيّ يَتَنَبَّأُ فيها عن ميلادِ المسيحِ في بيتَ لحم، والتي استشهَدَ بِها رؤساءُ اليهودِ وَكَتَبَتُهُم عندما استَدعاهم هيرودسَ المَلِك لِيَستَفسِرَ عن مكانِ ولادَة المسيح[2].

أهميّةُ هذا النَّبِيّ، بِالإضافَةِ إلى نُبوءَتِهِ عن المسيح، أَنَّه حَذَّر أهلَ السامرةِ وأورشليمَ مِن ارتدادِ نتائِج خطاياهم عليهم. ودعاهُم إلى التوبة، حينَ استشرى الفسادُ فيهم على كلِّ المستويات، ابتداءً مِن السُلطَةِ المدنيّة الحاكِمة إلى الدينيّة فالشعب. ثمَّ شدَّدَ هذا النَّبِيّ على أنَّ اللهَ لا يَرتضي بِعبادَةٍ شَكلِيَّة وذبائِحَ ومُحرقات، فَخاطَبَ الإنسانَ قائِلًا: "مَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ.[3]".

هذا تَمامًا ما حَقَّقَهُ الربّ: وُلِدَ فَقيرًا، وهوَ الغَنِيّ؛ وُلِدَ في مِزوَدِ البَهائِمِ، وَهُوَ الضَابِطُ الكُلّ؛ وُلِدَ لِكَي نَتَعَلَّمَ مِنهُ الرَحمَةَ والتَواضُع. وكُلُّ ما خالفَ ذلك، هُوَ سقوطٌ فَدَمار. هنا يشرحُ لنا ميخا النَّبِيّ كيفَ أنَّ الربَّ يَشهَدُ على أعمالِ البشر. وحين يأتي إلينا، يَسقطُ أمامَهُ كلُّ مُتَشامِخ: "فَإِنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ وَيَنْزِلُ وَيَمْشِي عَلَى شَوَامِخِ الأَرْضِ، فَتَذُوبُ الْجِبَالُ تَحْتَهُ، وَتَنْشَقُّ الْوِدْيَانُ كَالشَّمْعِ قُدَّامَ النَّارِ[4]". إلّا أنَّنا نَجِدُ عندَ هذا النَّبِيّ "المَجدَ" الذي يُعطيه الله للبقيَّةِ الباقِيَةِ وللتائِبين، فَيخرُجونَ إلى النورِ وَيَرَونَ بِرَّه.

كذلك تَنَبّأَ ميخا عن دمار أورَشليم نَتيجَةَ عَجرفَتِها وقَلبِها القاسي. فَكَم مِن أورشليم عِندنا اليوم!؟.

أمّا القِراءات الرَّابِعَة والسَّابِعَة والثَّامنَة، فَكُلُّها مِن إِشِعياء النَّبِيّ (ق ٨ قبل الميلاد).

يتكلّم إشعياء في القِراءةِ الأولى[5] على رُوحِ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوح الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، ورُوح الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. ويَقْضِي بِالْعَدْلِ وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ. أمّا في الثانية [6]، فَيتنبَّأ بولادَةِ الإلهِ الابنِ رَئيسِ السلام، والعاضِدِ بالحَقّ والبِرّ. وفي الثالثة[7] تَأتي نُبوءَتُه الشَهيرَة عن "عِمّانوئيل[8]" الذي يولَدُ مِن العذراء. وأنَّ اللهَ هو الغالِبُ والمنتصِرُ على كلِّ مَن يعتبر نَفسَه قَوِيًّا بِالباطِل.

هذه صورةٌ ميلادِيَّةٌ بِامتياز. فالصَبِيُّ المولودُ هُوَ الإِلهُ المُتَجَسِّد، الذي ستَندَحِرُ أَمامَهُ قِوى الظلام، بعدَ أن يُفَجِّرَ الجَحيمَ وَمملكَةَ الشيطان. فَلذَلِكَ تُرتِّلُ الكنيسةُ في عيدِ الميلاد: "اليوم يولَدُ مِن البتول"، على أَنغامِ لَحنِ "اليوم عُلِّقَ على خَشَبَة".

صحيحٌ أَنَّنا نَراهُ طِفلًا، إِلّا أنَّه الخَالِق. هذا أمرٌ عجيبٌ مُشيرٌ كما هو اسمُه[9] تَمامًا. هو مُشيرٌ لنا إلى الطَّريقِ المُستَقيم، فَإِنْ سَلكناه نِلنا الخَلاصَ حَتْمًا، حيثُ لا مَكان فيه لِمَن يَعشَقُ الطَّرقَ المُلتويَة.

أمّا القِراءةُ الخَامِسة فهي نُبوءةٌ مِن سِفرِ إرمياء النَّبِيّ الذي استدعى باروخَ وطلبَ إِلَيهِ أن يُدَوِّنَ ما وَضعَهُ اللهُ على فَمِه، مِمّا أثارَ كلامُه هذا غضبَ سامعيه. لا غَرابةٌ في ذلك إطلاقًا! فكَلامُ الحَقِّ مزعجٌ دائمًا لِمَن يَسلُكُ في الغِشّ والكَذب. فقد دعا إرمياءُ الجميعَ إلى التَّوْبَة والسُّلوك في النُّور والتَمسّك بِشَريعة الله: "كُلُّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا فَلَهُ الْحَيَاةُ وَالَّذِينَ يُهْمِلُونَهَا يَمُوتُونَ[10]". فحبيبُ الرَّبِّ عاشِقُ النُّور، ومُبغِضُهُ أَليفُ الظَّلام. فلذلك لا شِركة بين النُّور والظُّلْمَةُ.

كما نَقرأُ في نُبوءة إرمياء النَّبِيّ عَن مَجيءِ المَسيح إلى دُنيانا: "تَرَاءَى عَلَى الأَرْضِ وَتَرَدَّدَ بَيْنَ الْبَشَرِ[11]" وذلك ليكونَ "طَرِيقَ التَّأَدُّبِ بِكَمَالِهِ"، أي مِن أَجل كمال تدبير الله الخلاصيّ للبشر.

هنا تَحديدًا تُعلَن دَينونَتُنا كما أَوضَحَ الرَّبُّ لنيقوديموس: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً.[12]". هذا ما يُعلنه لنا عيدُ ميلادِ مُخلِّصنا. فَمَع ظُهورِ اللهِ في الجسد، ظهرَ النورُ في وَسَطِنا. أَنَتْبَعهُ أمْ نسلُكُ في الظلام؟.

القراءَةُ السَّادسة نُبوءةٌ مِن سِفرِ دانيال النَّبِيّ وفيها نقرأُ كيفَ فسّرَ دانيالُ حُلُمَ نَبوخَذ نَصَّر بعد أن كشفه اللهُ له. وقد تَضمَّنَ إقامةَ إلهِ السَّماوات لمملكةٍ لا تنقرض أبدًا، وهي مَملكةُ المَسيح، ملكوتُهُ السَّماويّ. وما هو مُلفتٌ في هذا الحُلُم، هو رؤيةُ المَلكِ لحَجرٍ قد "قُطِعَ مِنْ جَبَل لاَ بِيَدَيْنِ، فَسَحَقَ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَالْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ[13]".

يشرحُ ذلك القدّيسُ غريغوريوس النِّيصصي (ق٤) في عظتِه عن "معموديَّة المَسيح"، بحيث يُشيرُ إِلى أَنَّ "الحجرَ دونَ يَدين" هُوَ المسيحُ المولودُ دونَ زَرعٍ بَشريّ. أمّا سَحْقُهُ للمَعادِنِ والأحجارِ الكريمةِ والذَّهَب، فَما هوَ إلّا سقوط كُلّ مَجدٍ أرضيٍّ أمامَ مَجدِ المَسيح. وهذا ما نَقرَأُهُ عِند إِشعياءَ النَّبِيّ وبطرسَ وبولسَ الرّسولين، وسِمعانَ الشَّيخ: أَنَّ المسيحَ هوَ حَجَرُ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةُ عَثْرَةٍ لسقوطِ وقيامِ كثيرين.

خِتامًا، نُصَلّي وَنَأمَلُ أَن نُصغيَ في الْمِيلاد لِدَعوَةِ بُطرسَ الرّسول لنا، لأَن نَطرحَ عنّا كُلَّ خُبثٍ وٍمَكرٍ، وكذلك الرِّياءَ والحَسدَ وكلَّ مَذَمَّة، ونعودَ كالأطفال مَولودين كأَنَّه الآن[14]، حتّى نَسمعَ صوتَ الرَّبِّ يقولُ لنا: "طُوبَى لِلشَّعْبِ الْعَارِفِينَ الْهُتَافَ. يَا رَبُّ، بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ. بِاسْمِكَ يَبْتَهِجُونَ الْيَوْمَ كُلَّهُ، وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُون". (مزمور ١٥:٨٩-١٦).

إِلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1]." أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ (إنسان) مِنْ إِسْرَائِيلَ، فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى." (عدد ١٧:٢٤) (١٥٠٠ عام قبل المسيح)

[2]. ميخا ٢:٥ (القرن الثامن قبل الميلاد)

[3]. ميخا ٨:٦

[4]. ميخا ٣:١-٤

[5]. إشعياء ١:١١-١٠

[6]. إشعياء ٦:٩-٧

[7]. إشعياء ١٠:٧-١٥ – ١:٨

تعني: الله معنا. .[8]

[9]. "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّئاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ." (إشعياء ٦:٩)

[10]. باروخ ١:٤

[11]. باروخ ٣٨:٣ (القرن ٧ قبل الميلاد)

[12]. يوحنا ١٩:٣

[13]. دانيال ٤٥:٢ (القرن ٧ قبل الميلاد)

[14]. ١ بط ١:٢-٢