قدّم أستاذ الجامعة استقالته من الجامعة الوطنية اللبنانية بعد عشر سنوات لأنّه وجد نفسه هامشيا في مجتمعه وبلا كرامة أو تقدير لعلمه. يتقاضى الرجل مبلغ 60 الف ليرة أجراً للساعة ليقبضها بعد سنتين ويتحمل نفقات التنقل التي تتجاوز ما يقبضه وهو من دون ضمان صحي.

فشل الزملاء في إقناعه بالتراجع لكنه أصر وبحدة ودمعة برقت لم تتّضح تماماً في مقلتيه، ليكتب رسالة استقالته للعميد وفيها:

"تقدم ناطور البناء حيث أسكن باستقالته، وابلغنا بأنّه لا يستطيع الاستمرار بالعيش بالراتب القديم مع العلم ان تكاليف سكنه ومصاريف الكهرباء والماء هي على حساب قاطني البناية، وطلب راتباً ستة ملايين ليرة. وبما انني سادفع حصّتي له أي ما يساوي ما اقبضه من الجامعة، طلبت من الجيران التمهل بالجواب. قررت ان اعمل ناطورا للبناية".

"لم أنم. درست الموضوع طوال الليل فوجدت ان المناسب والأكثر ربحا لي ان اعمل ناطورا للبناية التي أقطن فيها...فاقبض 6 ملايين من دون ضريبة. أفسخ عقد إيجار بيتي، وأُرسل عائلتي الى قريتي حيث لدينا منزل صغير مقفل هناك، وأوفّر بذلك مصاريف سكني والكهرباء والماء مجانا، وأُوفّر أيضاً اجرة تنقّلي إلى الجامعة لمتابعة طلابي ثلاثة أيام في الأسبوع حضوريا ممّا يوفر لي مليونين ونصف، فيصبح مجموع ما أقبضه شهريّاً 8.5 ملايين، عندها لا اعود مضطراً لشراء بدلة صيفية وأخرى شتوية تليق بالتعليم للأستاذ الجامعي، وهذا يعني توفير 200 دولار أي ما يوازي 8 ملايين فيتجاوز مدخولي ال 9 ملايين ليرة".

حاول العمداء إقناعه بالتراجع وبضرورة التضحية وحماية الجامعة الوطنية وطلاّبه ولربّما تتحسّن الظروف في الجامعة ولربّما في لبنان، فكان رده أن اولادي هم أولى بان أقدم لهم ما يحفظ شيئاً من كراماتهم الإنسانية ومستقبلهم وحتى لا يموتوا جوعا على الأقلّ.

قبل مغادرته الجامعة. ادار وجهه وقال. "انا على استعداد لاعطاء الدروس (أونلاين مجانا) لحفظ الجامعة ومتابعة الطلاب (تطوعا) من غرفتي الجديدة التي سيخليها الناطور بعد يومين"

همس العميد: سيبقى اسمك على برنامج الدروس.... ولن امحوه".

هزّت القصّة الجسم التعليمي فقد لتتجاوز مقاييس ريختر التربوية، ولم يسمع بها لبنان الرسمي الذي لطالما تباهى رافعاً رأسه بأنّه جامعة العرب ومعقل الأكاديميا التي أصيبت بأمراض تعددية الطوائف والأحزاب والتراجع والجهل بما يندى له جبين الأكاديميا إذ يتفرّق شابات لبنان وشبابه أيدي سبأ. إنّ كبار الأساتذة الجامعيين باتوا في الخارج، وتكفينا طوابيرالشابات والشباب المتكدسين للحصول على جوازات السفرأو أمام السفارات لندرك معنى تفريغ لبنان. لبنان الرسمي في تناثر وتنافر وشلل ونقاش ممل بدولة الفراغ وصلاحيات جلسات الحكومة المستقيلة أو البرلمان بانتظار رئيس للبنان.

لربّما يقول سائل: لكن المشهد العام لبلدكم لا يبدو، من بعيد بائساً، إلى هذا الحدّ؟

الجواب أوّلاً، أنّ القطاع الخاص في لبنان "تدولر" وبات يدفع لموظفيه قسماً من رواتبهم بالدولار(فريش)، وثانياً، يساهم تدفّق اللبنانيين المهاجرين بالملايين من أنحاء العالم إلى لبنان عبر رحلتي الصيف والشتاء متحدّين السقوط والإنهيارات الشاملة لكن النتيجة بمعظمها تصبّ بالنتجة النهائية في حسابات أركان الدولة والأحزاب وكبار التجار والوكلاء الحصريين الأبديين، مقابل تراكم جبال الكوارث والفساد لتدمير القطاع العام المترهل.

كيف؟

1- لا يتجاوز راتب الأستاذ الجامعي الحامل 2 دكتوراه وصاحب المؤلفات والمحاضرات والدراسات وعقود من التعليم والأشرف والمشاركة بتخريج العشرات من طلاّبه حاملي الدكتوراه ال172 دولاراً. ويجد دولته قد كسرت قجّته إثر تقاعده كما الأجراء وموظفي القطاع العام، لتصرف ما راكمه، مع أنّها لم تدفع قرشاً لتغطية الرواتب التقاعدية وهي تتركه تايوم بلا طبابة أو كرامة.

كان يجب فصل المحسومات التقاعدية عن موازنة وزارة المالية إنصافاً لأساتذة الجامعة وحفاظاً على أموالهم العائدة لهم وحدهم لأنّها أموال تراكمت في "قججهم" من محسوماتهم الشهرية التقاعدية في خزينة الدولة التي (وظّفتها ؟؟؟؟؟ بل أهدرتها) عبر سنوات خدماتهم الطويلة في الجامعة الوطنية كما في المؤسسات الرسمية التي يسيّرها موظفو القطاع العام.

2- تدفع الدولة الفرنسية، بالمقابل، من موازنتها لضمان موظفيها 74.28 بالمئة من راتب الموظف في القطاع العام تغطية للنفقات التقاعدية والطبابة والإستشفاء ، ويمول الأستاذ الجامعي تقاعده من حسوماته التقاعدية التي تبلغ 6 بالمئة من راتبه، ليبلغ الوفر المحقق لهذا الأستاذ الجامعي من مساهماته لتمويل تقاعده ما يزيد على 200 ألف دولار عند الوفاة.