"يا يوسفُ بَشّر داودَ جَدَّ الإله بالعجائب الباهرة، لأَنَّك قد رأيتَ بتولًا حاملًا. فمَعَ الرعاةِ مَجَّدْتَ. ومع المجوس سَجَدتَ. وبالملاك أوحِيَ إليكَ. فابتَهلْ إلى المسيحِ الإله أن يُخلِّص نفوسَنا".

هذه الصلاة تُقالُ في تَذكار القدّيس يوسف خطيب مَريم العذراء والدة الإِلَه، الذي نُعَيِّدُ له مع الِقدّيسَين داود الملك ويعقوب أخي الرّبّ، يومَ الأحد الذي يَلي عيد الميلاد المجيد مباشَرة.

يأتي تذكارُ يوسفَ في هذا اليوم، لأنَّه في الليتورجيّة الأرثوذكسيَّة يُعَيَّدُ لِلقِدِّيسينَ، المُرتَبطينَ بأحداث عيدٍ كبير، في اليوم الذي يَلي العيد مباشرة. مِثالٌ على ذلك، يُقامُ العيدُ الجامع لوالدةِ الإلهِ في اليومِ التالي لِعيدِ الميلاد. ويُعَيَّدُ للقدّيسِ يوحَنّا المعمدان في اليومِ التالي لعيدِ الظهورِ الإلهيّ.

للقدّيسِ يوسفَ مَكانَةٌ كبيرةٌ في الكنيسة، وكَذَلِكَ في حياتِنا المَسيحيَّةِ التي نَعيشُها كلَّ يوم. صِفاتُه الحميدة الكثيرةُ تَجمعُ، مِن جِهَة، بَينَ الأمانَةِ الكُبرى والتَضحيَةِ والاستبسالِ والشَجاعَة، ومِن جِهَةٍ أخرى، بينَ مِثالِ الأبوّة الصَّالِحة والمُضَحِيَّة. هذا بالإضافَةِ إلى إيمانَه الكبير وَثِقَتِهِ العَمياء بِالرّبِّ وعَيشِهِ الصَّادِقِ لوصايا الله.

نقرأ في صلاةٍ أخرى في عِيده: "لقد استأهلت أن تُشاهدَ المسيح، الصَّائرَ طِفلًا على صورَتِنا، وَدُعيتَ لَه أبًا. فعظيمةٌ كَرامَتُكَ على الحقيقَة، وَسامِيَةُ مَنزِلتُكَ على كلِّ أحد. فلذلك نمدحك".

إذا أرَدنا تَجْسِيدَ هذه القِطعة وَتَرجَمَتَها في حَياتِنا، نَقول:

طوبى لكَ يا يوسف، أيُّها الشَّيْخُ الجَليل والأَرمَلُ الصِّدّيق. الذي لمّا عُهِدَتْ إِليكَ الفَتاةُ العَذراءُ، صِرتَ هَيكلًا ثانيًا مُقُدَّسًا عاشَت والدَةُ الإلهِ في ظلِّه، بعدَ أن تَرَبَّت في الهيكلِ الأوَّل، هَيكلِ أورشليم، لتُصبِحَ مَريمُ لاحقًا أمَّ الهيكلِ الإلهيِّ غيرِ المَبنيّ بِيدِ إنسان.

طوبى لكَ يا يوسف، يا مَن احتملتَ الصِّعابَ والمَشقّات، وَأنتَ تُطيعُ مَشيئَةَ اللهِ، وتَعملُ بِكِلِّ ما يَطلبُهُ مِنك، فكنتَ الخادمَ الأمينَ للمولودِ الإلهيِّ الذي تَربّى تحتَ كَنَفِك.

طوبى لعَينَيكَ النَقيَّتَين اللتَينِ عايَنَتا الخالِق!.

طوبى لِيَدَيكَ الطاهِرَتَينِ اللتَينِ حَمَلَتا رَبَّ الأكوان!.

طوبى لحِضنِكَ الدافِئ الذي جَلَسَ فيه رَبُّ المَجد!.

وطوبى لشفَتَيكَ العذبَتَينِ اللتَينِ قَبَّلَتا السَّيِّد!.

آهٍ كَم جَميلةٌ هيَ اللحظاتُ التي فيها رافَقْتَ الرَّبّ، مِن لَحظَةِ وِلادَتِه إلى أن استوفاكَ الله!.

إنِّنا نَقِفُ عاجزينَ عَن وَصفِ حَمْلِ الإلهِ المُتَجَسِّدِ بينَ يَدَيكَ الطَّاهِرَتَيْن، وضَمِّهِ إلى صَدرِك، ومُرافَقَتِهِ في أولى خَطَواتِهِ وَهوَ يُمسِكُ يَدَك! وَكيفَ حَمِلتَهُ على كَتفَيك، وَهوَ يَضحَكُ فَرِحًا، فيما أنتَ لا تَسَعُكَ الدُنيا! وكيفَ ساعَدَكَ في أَعمالِ النِجارَة. وأمورٌ كثيرةٌ لا تُحصى، مَليئَةٌ بِفَرحٍ لا يُوصَف.

نَقرَأُ عَن القِدِّيسِ يوسُفَ خَطيبِ مَريم في إنجيلَيّ مَتّى ولوقا، وذَلكَ في أَحداثِ طُفولَةِ الرَّبّ. وَيَأتي آخِرُ ذِكْرٍ لَه عندما بَحثَ مع مريمَ عن يسوع، وَوَجداهُ في الهَيكل.

تُظهِرُهُ أيقونَةُ عِيدِ الميلادِ المَجيدِ جَالِسًا على حِدَة، وَمُتَفَكِّرًا في ذاتِه. هذا المَشهدُ الإيقونغرافيّ مُرتَبِطٌ بِما ذَكَرَهُ مَتّى في إنجيلِهِ حَيثُ كَتَب: "فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا" (متى ١٩:١).

فَقَرارُ يوسفَ هذا، لاهوتٌ بِحَدِّ ذاتِه. ففي الشَريعَةِ اليَهودِيَّةِ يُعاقَبُ بِالرَجْمِ كُلُّ مَن يَسكُتُ على فِعلِ الزِنى. فقرارُه إذًا بِتَخلِيَةِ مريمَ سِرًّا بَعدَ كَشفِ حَبَلِها، خطيئةٌ كبيرة. هكذا كان اليهودُ سيَفهمونَ الأمر.

وهنا يُطرَحُ السؤَالُ المِحْوَرِيّ: كيفَ يُخالِفُ يوسفُ البارُّ أَحكامَ الشريعة، وَهوَ المَشهودُ لَهُ بأمانَتِهِ لَها!؟ فما الذي دَفَعَهُ لِفِعلِ ذلك؟.

لقَد وَجَدَ يوسُفُ في بَراءَةِ مَريمَ العذراء ما هو أقوى بِكثيرٍ مِنَ الشرائِعِ والقوانين. فأَخَذتْهُ الحَيْرَةُ في أَمرِها! كيفَ له أن يَتَسَبَّبَ برَجمِ أنقى وَجهٍ التقاهُ في حياته؟.

يا لهذهِ الدينونَة الرهيبَة التي سيَجلبُها على نفسه! ولكن في الوقتِ ذاتِه، كان يَجهلُ ما الذي حَصَلَ لها. فأتى قرارُه هذا وكأنّه يقول لله: "أنتَ صاحِبُ الشريعة وواضِعُها، فأحكُم أنت"!.

لذلك أتى قرارُ يوسفَ في قِمَّةِ الصِّدقِ والتَّسْلِيمِ للرَّبِّ، وفي كامِلِ الحِكمة. لا بل كان ذلك تواضُعًا كبيرًا مِنه، إذ اعترف أمام ربِّه بمحدوديَّة فِكرِه. هذا تعليمٌ كبيرٌ لنا جَميعًا، ندرِك مِن خلالِه بأنَّنا بشرٌ حقًّا وليس آلهة، فنتَّضِع ولا نُطلِقُ العنانَ لأهوائِنا المريضة حتّى تقودَنا إلى الهلاك.

فلا رَيْبَ إذًا أن تُصبحَ وضعِيَّةُ جلوسِ يوسف، كما تُظهرُها أيقونةُ الميلاد، الوضعيّةَ الأكثرَ تَمثيلًا له.

أمام هذهِ الحَيْرَةِ الصَّادِقَةِ والاعترافِ النبيلِ مِن قِبَلِ القِدِّيس يوسف، بعَجزِهِ عن إدراكِ حَبَلَ مَريَم، أَرسَلَ اللهُ له مَلاكَه، مُحَمِّلًا إيّاه الرسالةَ التالية: "يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ"(مت ٢٠:١).

لنلاحظ هنا ثلاثة أمور بغاية الأهميّة:

الأوَّل: دعا الملاكُ يوسفَ باسمِه. كيف للملاك أن يَعرِفَ اسمَ يوسفَ لو لَم يُعلِمْهُ اللهُ بِذلك؟ هذا أكثرَ مِن احترامٍ له مِن قِبَلِ الله، لا بل إنَّها بُنُوَّةٌ حقيقيَّةٌ ليوسفَ مِن قِبَلِ القَدير. فيوسفُ هو ابنُه بالنِعمة والحقّ، واللهُ يعرفُ كلَّ واحدٍ مِنّا لأنَّنا أبناؤه.

الثَّاني: لقد قَصَدَ اللهُ أن يناديَهُ بواسطة الملاك بـِ"ابن داود". هذا الأمرُ مِحوَرِيٌّ وعميقٌ جِدًا. إذ كان المتعارَف عليه عِند اليهود أنّ المسيحَ سيأتي مِن نَسلِ داودَ بِحسبِ الْجَسَد. إذًا المَولودُ هو تَحقيقٌ للنبوءَةِ المنتظَرَةِ منذُ القِدَم. وهذه أيضًا شهادةٌ مِن لَدُنِ الرَّبِّ بأنَّ يوسفَ هو ابنُ هذه المَسيرة الخلاصيّة.

الثَّالث: في ما يَختَصُّ بالحَبَلِ الإلَهيّ. فقَد أطلَعَ اللهُ يوسفَ بأنّهُ أمامَ حَالةٍ لا سابِقَةَ لَها في تاريخِ البَشَرِيَّة! (وستبقى الوحيدة). وأنّه قد أصبح مُنذُئِذٍ الحارسَ الأمينَ لوديعَةِ الله.

يا لهذه الكرامة الكبيرة التي أعطاها اللهُ ليوسف!.

ويا لهذه الثقة من قِبَلِ الربِّ بِيوسف!.

فلو أنَّ الله لم يكن يعرفُ بأنَّ يوسفَ جَديرٌ بها، لما أَودَعَهُ إِيّاها. فالله لم يفعل ذلك فحسب، بل أَوكَلَ إليه أيضًا بَمَن تَحمِلُ في أحشائِها، أَيّ نفسه. يا ربُّ ارحم!.

خِتامًا، مع الأفكارِ الثلاثةِ أعلاه، فلنجلسْ نحنُ جَلسَة يوسفَ البارّ، وَنُفَكِّرْ مَلِيًّا بكلِّ ما سنَفعَلُهُ في لحظاتِ حياتِنا، وما الذي سنُقدِمُ عليه. ولنَعلَمْ جيِّدًا أنَّ اللهَ يرانا، وبِأنَّنا سنُقَدِّمُ حِسابًا على كلِّ شيءٍ فَعَلناهُ إن لم نَتُب. لا محاباةَ للوجوهِ عند الله، فهوَ يدرِك مكنوناتِ القلوب. فلا شيء مخفيٌّ عنه.

الله يريدُنا أن نماثِلَ يوسفَ بتواضُعِه وحِلمِه، ونَقاوَتِهِ وبَراءَتِه، ونَتَحَمَّلَ المسؤوليّات بِكلِّ صِدقٍ ونَزاهَة، فَيملأَنا فعلًا مِن نِعَمِه ويَزيد. هذا هو معنى اسمِ يوسف في لُغَةِ الضادّ: "يَزيد".

إلى الرَّبِّ نَطلُب.