مع دخول البلاد عطلة الأعياد رسميًا، بات "الجمود" عنوان المرحلة بامتياز، على المستوى السياسي، حيث أضحت كلّ الاستحقاقات "مؤجّلة"، وعلى رأسها استحقاق ​الانتخابات الرئاسية​، الذي "رُحّل" إلى العام الجديد، مع لائحة المرشحين المُعلَنين والمُضمَرين والمستترين، في ظلّ "رهان" على حراك خارجي قد تظهره معالمه مطلع العام الجديد، ولو أنّ "مقدّماته" الداخلية المطلوبة لم تتوافر حتى الآن، وفق ما تؤكد كلّ المعطيات المتوافرة.

وبعكس "الجمود" السياسي والرئاسي، فإنّ عطلة "الأعياد" لم تنعكس على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي أخذت في التفاقم، وكأنّ هناك قرارًا بحرمان اللبنانيين من "الاحتفال" ولو بالحدّ الأدنى، فحلّق سعر الدولار من جديد بشكل "جنوني"، مسجّلاً المزيد من المعدلات القياسية، فيما بدا أنّ "المساعدة الاجتماعية" التي وُعد بها العسكريون المتقاعدون سقطت "ضحية" الاشتباك السياسي بين رئيس حكومة تصريف الأعمال و"​التيار الوطني الحر​".

وسط كلّ هذه المعمعة، جاء اللقاء "المفاجئ" نوعًا ما بين رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​ ليخرق "الجمود"، ويطرح جملة من علامات الاستفهام، فما الغايات والأهداف المنشودة منه في هذا التوقيت بالتحديد؟ وكيف يمكن تفسيره في ظلّ "الحملات المتبادلة" بين الجانبين، والتي لم تتوقف فصولاً حتى في الساعات الأخيرة التي سبقت حصوله، وحتّمت انعقاده بعيدًا عن كليمنصو؟.

لكنّ الأهمّ من الغايات والأهداف التي قد يصيب تحليلها كما يخطئ، تبقى التداعيات المرتقبة له على المستوى السياسي، ولا سيما في ما يتعلق باستحقاق انتخابات الرئاسة، فأيّ "مفاعيل" سياسية محتملة للقاء جنبلاط باسيل، الذي رأى فيه كثيرون "كسرًا لعزلة" الأخير، لا يمكن أن يكون "مجانيًا"؟ هل يمهّد لـ"تموضع جديد" لـ"بيك المختارة"، بعد سقوط "خيارات" المعارضة ورهاناتها، علمًا أنّ الرجل سبق أن أبدى انفتاحه أيضًا على "​حزب الله​"؟.

في التوقيت السياسي، تُعطى الكثير من التفسيرات التي قد تبدو "واقعيّة ومنطقيّة" للقاء جنبلاط وباسيل، منها أن يكون الهدف منه "آنيًا" مرتبطًا بأزمة الحكومة وتبعاتها على المجلس العسكري، ولو أنّ بعض الأوساط نفت تناول هذا الملف أصلاً، ومنها أن يكون اللقاء بمثابة "تحضير أرضية" لتقارب يمكن أن يرقى إلى مستوى "التفاهم الرئاسي"، على وقع الحديث عن "تسوية" في الأفق، ولو أنّ الجانبَين المعنيَّين يرفضان مثل هذه الاستنتاجات.

فإذا كان صحيحًا أنّ "رادارات جنبلاط" معروفة بقدرتها على "التقاط" الإشارات، وقدرتها على "التأقلم السريع" معها، ما أوحى لكثيرين أنّ "البيك" من خلال تقاربه مع "أشدّ خصومه"، الوزير السابق جبران باسيل، يسعى لـ"حجز موقعه الطبيعي" في أيّ تسوية آتية، إلا أنّ المحسوبين على "الاشتراكي" ينفون ذلك جملةً وتفصيلاً، ويضعون اللقاء في خانة "الجاهزية للحوار" التي يبديها جنبلاط على الدوام، بدليل تلقفه دعوة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ الأخيرة.

وترفض أوساط "الاشتراكي" وضع اللقاء بين جنبلاط وباسيل في إطار أيّ "انعطافة" لا تعدو كونها "وهمًا" لدى البعض، بدليل أنّ "الاشتراكي" استبق اللقاء مع "التيار" باجتماعَين "معبّرَين" مع كلّ من رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ والمرشح الرئاسي النائب ميشال معوض، أتيا ربما لتفادي أيّ تفسيرات غير دقيقة للقاء، مشيرة إلى أنّ الهدف منه واضح ولا لبس حوله، وهو فتح قنوات الحوار مع الجميع، في مرحلة لا تتطلب سوى الحوار.

وبمعزل عمّا إذا كان صحيحًا أنّ "العونيّين" لم يكونوا راضين عن الاجتماعين مع جعجع ومعوض، ما دفعهم إلى "تأخير" الاجتماع وتعديل مكانه، بعدما كان مرتقبًا ظهرًا في كليمنصو، فعقد مساءً في "أرض محايدة"، إن جاز التعبير، فإنّ أوساط "التيار" بدورها تضع اللقاء في خانة "الحوار المفتوح" مع مختلف القوى السياسي المعنيّة بالشأن الداخلي، وفي سياق المبادرة التي سبق لتكتل "لبنان القوي" أن أعلنها في أكثر من مناسبة.

ولعلّ ما عمّمته مصادر "التيار الوطني الحر" عن اللقاء يتناغم مع هذه القراءة بشكل أو بآخر، حيث تعمّدت وضعه في إطار "لقاءات كثيرة" يعقدها رئيس "التيار" بعيدًا عن الإعلام، "منها ما يتسرّب ويُعرف، ومنها ما لا يُعرَف"، مشدّدة على أنّ هذه اللقاءات بمجملها تندرج في إطار "حراك" يقوم به باسيل من أجل انتخاب رئيس من ضمن برنامج "إنقاذي" تمّ التأسيس له في ورقة الأولويات الرئاسية التي سبق لـ"التيار" أن أطلقها.

استنادًا إلى ما تقدّم، وإلى ما أدلت به أوساط الفريقين المعنيَّين من اللقاء، والتي يبدو أنّها تولّت "التخفيف من وقعه" بشكل أو بآخر، يستبعد المتابعون أن يفرز اجتماع جنبلاط وباسيل أيّ "تغيير" في المعادلات على أرض الواقع، أو حتى أن يخلق "دينامية جديدة" يمكن البناء عليها، من أجل تعديل "التموضعات" القائمة حاليًا، والتي ترجِمت في جلسات الخميس الرئاسية، ولو أنّ هناك من لا يزال مصرًا على أنّ خروج جنبلاط من المعارضة لن يكون ببعيد.

ويشبّه العارفون في هذا السياق لقاء جنبلاط بباسيل اليوم، باللقاء الذي عقده قبل فترة مع قيادة "حزب الله"، من دون أن يترجَم في السياسة عمليًا حتى الآن، رغم كلّ ما أحاط به من ضجّة بدت في جانب كبير منها "مفتعلة ومضخّمة". ويشيرون إلى أنّ هذه اللقاءات بمجملها تندرج في خانة "الانفتاح وكسر الجليد" أكثر من أيّ شيء آخر، بما يفتح الباب أمام "الحوار" الذي قد يمهّد لـ"التسوية" التي لا بدّ أن تأتي، عاجلاً أم آجلاً.

في النتيجة، قد لا يكون للقاء بين جنبلاط وباسيل أيّ "تداعيات مباشرة" في الأيام القليلة المقبلة، لكن ثمّة من يعتقد أنّه يشكّل "خطوة متقدّمة" في مسار "التسوية" يمكن البناء عليها، خصوصًا أنّ "البيك" لا يزال يُنتظَر إليه في قاموس القوى السياسية اللبنانية على أنّه "بيضة قبان"، ما يعني أنّه قد يكون له دور "جوهري" في رسم معالم استحقاق الرئاسة، وهو دور لا يخفي "الاشتراكيون" رغبتهم في لعبه، تحت عنوان "التوافق".