لا تكادُ تدخلُ بيتًا في هذه الأَيَّام حتَّى ترى فيه شجرةً مزيَّنةً وكأنَّ كلَّ الخير قد عُلِّقَ عليها وكلَّ الرفاهية قد عشَّشت بين أَغصانِها وكلَّ الأحلامِ الحلوة ارتاحت تحت أفيائِها. كما ترى بجانبِ تلك الشَّجرة أَو تحتها مغارةً نامَ الفقرُ بين جدرانِها والتفَّ العَوَزُ في حَناياها حتَّى باتَ مَعلفُ البهائِمِ سريرًا يرقدُ عليه طفلٌ شبهُ عارٍ وأُمُّه ترْمقُه بعَيْنَيْن خالَطَ فيهما دمعُ الفرحِ علاماتِ الاستفهام التي تشكِّلُ غِمْدًا لسيْفِ الحزنِ الذي سيجوزُ يَوْمًا قلبَها.

وبين المغارةِ الوضيعةِ والشَّجرةِ المُزدانةِ بأَبْهى الحليِّ والحُللِ ونهر الأردنّ الذي سيستضيف طِفْلَ المغارة ذاته وقد تجاوزَ الشَّبابَ وبلغَ الرُّجولة، ليعتمدَ على يدِ يوحنَّا المعمدان الذي نادى بالنَّاسِ توبوا فقد اقتربَ ملكوتُ السَّماوات. إنَّه يومُ الغطاس أَو الدّنح أي الظُّهور حيث تجلَّى اللهُ ثالوثًا بالابنِ الغاطسِ في الماءِ والرُّوحِ الآتي بشِبْهِ حمامةٍ والآبِ الذي أسمع صَوْتَه قائلًا هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت.

بين هذه وذاك مسافةُ عمر البشريَّة بكلِّ ما فيها من أفراحٍ وأحزانٍ وأمجادٍ وضيقات وخيباتٍ وانتظارتٍ ووعودٍ وآمالٍ وتساؤلاتٍ وقناعاتٍ ودموعٍ وابتسامات، وقِسْ على كلِّ هذه ما شِئْتَ من الصّفاتِ والكلمات والإجابات والافتراضات، حتَّى أنَّك لو استعرضتَ أبناءَ البشر اليوم من المؤمنين والمُلْحدين والجَهَلَة والعاقلين والمارقين والعابدين، والمكرَّسين الناذرين كما العلمانيِّين والمؤمنين الناسين أَو المتناسين لَقُلْتَ: تُرى لو كان هؤُلاء جميعهم في لحظة الزَّمنِ الذي لُفَّ فيه الطِّفلُ بالأَقمطةِ أو انْحنى يسوع أَمامَ يوحنَّا طالِبًا العمادَ إذ لا بُدَّ أَنْ يتمَّ كلُّ ذلك، ماذا تُراهم يقولون؟ أيُهلِّلون مع الملائِكة مرنِّمين المجدُ لله في العُلى وعلى الأَرضِ السَّلام وفي النَّاسِ المَسَرَّة، أَم أَنَّهم يصْغون بالخَوْفِ والقلقِ الآتي من مستقبلِ البشريَّة، إلى أزيزِ الرَّصاصِ وأَصواتِ المدافعِ فيتلهَّوْن عن رؤْيةِ الطِّفلِ بإحْصاءِ الضَّحايا ويُغمضونَ أَعْيُنَهم عن بهاءِ مَنْ في المغارةِ لتنطبعَ في مخيِّلتِهم لوحاتٌ سَوْداءُ يرسمها البشرُ بأَحقادِهم ويلوّنونها بدماءِ بعضِهم البعض، فيهربون إلى ذاك الأردنّ ليغْسِلوا أيْدِيَهم من جرائِمهم علَّهم يسترون ما فعلوه من القبائِحِ قَوْلًا وفِعْلًا وإهْمالًا بذاك الماءِ الذي عَكَّرتْه خطايا التَّائبين على يدِ المعمدان، فيصمُّون آذانَهم عن نداءَاته المتكرِّرة توبوا وتوبوا، فلا يُلفتُ انتباهَهُم كلامُ الله النَّازِلُ من عَلُ يقول: هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا، فيقولون مع الكثيرين الذين سبقوهم: إنَّه صَوْتُ الرَّعْد.

وما أكثرَ أَصوات الرُّعود اليوم فهي تحلُّ محلَّ النُّصْحِ والتَّنبيهِ والإرشادِ والعقلانيَّةِ والمنطقِ وحسْنِ التَّدبير وصَحْوَةِ الضَّمير. فلا كلامُ المُخْلِصين يصلُ إلى آذانِ المدبِّرين المسؤُولين المسلَّطين على مقدَّراتِ البلادِ والعِباد، وعلى كُنوزِ الله من النِّعمِ والخَيْرات، وكأَنَّ أصواتَ الرَّعدِ غلبتْ كلَّ نُصْحٍ فعمَّ الفسادُ في كلّ الأمصارِ وربَّما في الكنائِسِ والأَديار، وضاقتْ صدورُ أَهلِ القرارِ بآراءِ الذين يدلُّونهم على مكامِنِ الَخطار، فأَبعدوهم وأهملوهم واستبدلوا بهم أَهلُ الذلِّ والصِّغارِ وزيَّنوا تلك الشَّجرات بملاعقِ الكفَّارِ النَّهمين إلى كلِّ الرَّذائِل والاستئثار. حتَّى عجزَ يوحنَّا عن عمادِهِم وجفَّ أردنُّ العالم تاركًا لهم حَطَبَ الجوعِ إلى الملذَّاتِ، وبيوتَهم طعم الدَّمار.