تُطوى في هذه الليلة سنة من عمرنا وندخل في رحاب سنة جديدة من تاريخ هذه الأرض. ليس معروفًا ما ينتظرنا، جلّ ما أعرفه، كما تعوّدنا، أن نلقي همّنا على الله وهو يعولنا، إذ ليس من اتّكالٍ على أهل الأرض ذوي السلطة. البشر معرّضون للسقوط. ليس لنا سوى الله الذي نتّكل عليه، ونلقي عليه همومنا، وهو أمينٌ على أن يسندنا، ويدبّر احتياجاتنا، ويحفظنا، "الاتّكال على الله خير من الاتكال على الإنسان"(مزمور ١١٨: ٨).

إن كان الله يسمح ببعض الضيقات لأولاده، أو إن كانوا يسقطون أحيانًا في خطايا صعبة ويتوبون، فالله لن يتركهم، بل يرفع الضيقات عنهم ويسامحهم ويعيدهم إلى مكانتهم الأولى. هذا ما أنا مؤمن ومقتنع به، وهذا ما علينا أن نسعى إليه كلّ يوم.

تمرّ الأيام وتمضي السنين ولا يبقى إلا وجه الله. تمرّ السنوات ويمكن اختصارها بثلاثة أيام: الأمس عشناه ولن يعود، اليوم نعيشه ولن يدوم، والغد لا ندري أين سنكون. لذا نحن مدعوون أن نتسالم ونتصالح مع أنفسنا ومع الآخرين. فلنتجاوز عن الإساءة بالغفران أو النسيان. وليكن الغفران هديّتنا للآخرين مع بداية هذا العام، أمّا النسيان فهديّتنا لأنفسنا، حتى لا نغرق في الحقد. لا يمكن أن تمرّ السنوات دون أن نتعلّم من أخطائنا، وننظر إلى الأمام ونستعد لمواجهة التحدّيات.

علمتني السنوات، أن الشأن العام، على الرغم من أهميته، متعب ومزعج ومربك، وفي آخر المطاف "لا مع سيدي بخير ولا مع ستي بخير". من هنا لا بدّ للواحد منّا، بين الحين والآخر، أن يبتعد قدر الإمكان عن ابداء رأي، منعًا لعثرة غيره، والاختلاء مع ربّه والإعتراف بخطاياه أمام الديّان العادل. هكذا يكون الغد أفضل من الماضي، فالسنين ليست سوى دروس لتوبة صادقة.

حاولت في السنتين المنصرمتين أن أترجم بعضًا من دروسِ الحياة، من خلال مقالات أسبوعيّة عبر "​النشرة​" الإلكترونيّة اللبنانية وغيرها من المواقع، بعضكم تابعها وقرأها وعلّق عليها وأبدى رأيًا، والبعض الآخر لم يعلّق.

مئة مقالة دوّنتها خلال سنتين ونيّف، جاءت بإلهام من وجع الناس ووجعي. كنت أمينًا، بالحد الأدنى، على مقاربة المواضيع من خلال خبرات شخصيّة. رافقتكم بمواضيع وعناوين متنوّعة ومتعدّدة ذات طابع إنسانيّ أو وطني أو إجتماعي، ولكن بقالب دينيّ ومضمون روحيّ، حاكت بمعظمها يوميّات الناس.

تعدّدت العناوين، وكان لي إلهامات استقيتها من تربيتي البيتية والكنسية. في بعض الأماكن غرفت من معين المطران ​جورج خضر​ الشيء الكثير. إنّه المدرسة التي علّمتني أمورًا مهمّة خلال سنوات طويلة، ولم تكن تربيتي في حركة الشبيبة الارثوذكسية، التي لي شرف الإنتماء إلى عضويتها، سوى استمرار لنهج ومدرسة جورج خضر.

بعد هذه التجربة التي خضتها، رأيتُ من الأنسب الآن أن أتوقف عن الكتابة، حتى لا أصنّف نفسي كاتبًا، وكي "لا استكبر بفرط الإعلانات".

هنا تعود بي الأيام إلى منتصف تسعينات القرن الماضي، حيث أوصاني يومها، الكاتب والصحافي الراحل جورج ناصيف، أن كتابة أيّ نصّ أو مقال، إن لم يرتكز على الحقيقة والموضوعيّة، وإن لم يكن نابعًا من القلب، فلا يحقق مبتغاه.

رأيتُ الآن أنّه من الأجدى في ظلّ أوضاع "القرف" التي نعيشها، على كافة الصعد والمستويات، وكوني لا أملك الجرأة ولا الموقع الذي يخوّلني لأشفي غليل القارئ، رأيت أنّه من الأنسب التوقف عن كتابة المقالات، أقلّه في المدى المنظور، لأخصّص وقتًا أكثر في خدمة الناس. فالناس بحاجة اليوم إلى أفعال أكثر من الكلام. يمكن بعض الاستثناءات التي قد تكون غبّ الطلب، طالما الربّ أبقاني على قيد الحياة.

قبل أن أودّعكم، لا بد من توجيه كلمات معايدة لكلّ قارئ وقارئة لهذه السطور، على رجاء أن يحمل لنا ​العام الجديد​ بعض الأمل، الذي فقدناه بسبب من تناطح المسؤولين عندنا، وما يتمتعون به من حبٍّ للرئاسة والسلطة والمال، تحت ستار الطائفيّة البغيضة.

كما الشكر والمعايدة واجبة لأخ عزيز، رافقني ووجّهني وأبدى لي نصائح، ساهمت في ظهور المئة مقالة إلى القارئ. والشكر أولًا وأخيرًا لله، الذي زرع وزناته في طريقي، فاستثمرتها قدر المستطاع.

وعليه استودعكم الله، ولن اقول وداعًا، بل إلى اللقاء، وحتى نلتقي مجددًا أرجو من الله ان يحفظ ما تبقّى من هذا الوطن المعذّب والجريح، القابع تحت ظلم حفنة من المسؤولين، الذين لم يعرفوا الله يومًا.

بالرغم من كلّ الحزن الذي نعيشه، أعايدكم وأتمنى لكم سنة خير بإذن الله. وإلى اللقاء.