كانَ أكثَرَ ما مَقَتَهُ أولَئِكَ البارِعينَ في مُداهَناتِ المُراوَغاتِ وَمِطواعِيَّاتِ الرِياءِ، وَهُم أكثَرُ مَن إصطَنَعَ التَباكيَ عَلَيهِ، يَومَ إنتِقالِهِ الى دارِ الآبِ.

هوَ الَذي، طَوالَ حَياتِهِ، إفتَدَى الحَقيقَةَ بِكَلِمَتِهِ وَفِعلِهِ، يَرأفُ بِهِم، لأنَّهُم أصغَرُ مِن أقدَسِ ما قامَ بِهِ لِيُؤَكِّدَ إنتِسابِ السَماءِ لِلأَرضِ، فيما هُم يُحَقِّرونَ الأَرضَ والسَماءَ مَعاً. وَما إكتَفوا بِلَغوِ سَطحِيَّاتِهِم، بَل تَسَربَلوا بالروحِيَّاتِ لِغاياتِ الزَمَنِيَّاتِ. وَما إستَكانوا في إطاعَةِ الباطِلَ، بَل إدَّعوا تَجسِيدَ المُطلَقِ في النِسبيِّ، إذ هُم... مِنَ الكَنيسَةِ: أقدَسُ المُعطَياتِ الإلَهِيَّةِ لِبَني البَشَرِ.

هَؤلاءِ الَذينَ لا يَدينونَ إلّا بأنفُسِهِم، لَيسوا بِكَينونِيِّينَ، مَهما أعلوا تيجانَهُم. هُم "الذِئابُ" الَذينَ طَلَبَ، في عِظَةِ تَكريسِهِ خَلِيفَةً لِبُطرُسَ، الصَلاةَ لأَجلِهِ "لِكَي لا يَخافَ أمامَهُم."

وَما خافَ.

بِوَجهِهِم، نادى الشَبابَ الى "ثَورَةِ اللهِ".

هوَ الصارِخُ بِشَبيبَةِ لبنانَ: "يَقولُ المَسيحُ: "سَلامي أُعطيكُمُ!" هُنا تَكمُنُ الثَورَةُ الَتي جاءَ بِها المَسيحُ، ثَورَةُ المَحَبَّةِ. يَجِبُ ألَّا يَدفَعُكُم الإحباطُ لِلهُروبِ بأنفُسِكُم إلى عَوالِمَ موازِيَةٍ كَتِلكَ الخاصَّةِ بِعالَمِ المُخَدِّراتِ...، أو بِعالَمِ الإباحِيَّةِ الحَزينَ... كونوا أصحابَ مُبادَراتٍ تُعطي وجودَكُم مِعنىً وَجُذوراً، حارِبوا السَطحِيَّةَ وَمَنطِقَ الإستِهلاكِ السَهلِ! في الوَقتِ ذاتِهِ، أنتُمُ مُعَرَّضونَ لِتَجرِبَةٍ أُخرى، تَجرِبَةِ المالِ، هَذا الصَنَمَ الغاشِمَ الَذي يُعمي لِدَرَجَةِ خَنقِ الشَخصِ وَقَلبَهُ. الأمثِلَةُ الَتي تُحيطُ بِكُم لَيسَت دائِماً الأَفضَلَ." وَتابَعَ: "كونوا رُسُلاً لإنجيلِ الحَياةِ وَلِقِيَمِ الحَياةِ. قاوِموا بِشَجاعَةٍ كُلَّ ما يُنكِرُها: الإجهاضَ، والعُنفَ، وَرَفضَ الآخَرِ أو تَحقيرَهُ، والظُلمَ، والحَربَ."

قُلتُ: "ثَورَةٌ"؟ هوَ قالَها. تِلكَ الَتي جَوهَرُها اللهُ، وَكفالَتُها اللهُ، وَتَمَظهُرُها حَقيقَةُ اللهِ.

قُلتَ: "بِوَجهِهِم"؟ هوَ فَصَلَ بَينَ ماهويَّتِهِم وَماهويَّةِ الشَبيبَةِ الَتي جَعَلَها مِحوَرَ الوجودِ: "المَسيحُ يَدعوكُمُ لِلتَمَثُّلِ بِهِ... هوَ لَم يَنتَصِرَ عَلى الشَرِّ بِشَرٍّ آخَرَ، بَل بِأخذِهِ الشَرَّ عَلى عاتِقِهِ وإبادَتِهِ فَوقَ الصَليبَ بالحُبِّ المُعاشِ حَتَّى المُنتَهى... أيُّها الشَبابُ الُلبنانيُّ... أنتُمُ لبنانَ".

ضَرورَةُ المَسيرَةِ

في هَذا الوجودِ-المِعِيَّةِ، المُنطَلِقِ الى الآخَرِ وَمَعَهُ، بالنُزوعِ الثابِتِ الى اللامُتناهيَ، حَيثُ اللهُ مُتَجاوِزٌ ذاتَهُ، والإنسانُ واجِدٌ نَفسَهُ في هَذا التَجَاوزِ، يَبزُغُ لبنانُ حَقيقَةً نِهائِيَّةً لأنَّها نَقِيَّة في سِرِّها وِفاعِلِيَّتِها وَغايَتِها. لا نِسبِيَّةَ فيها.

أجَل! مَعَ بِنِديكتوسَ السادِسَ عَشَرَ، عَلا لبنانُ إستِقراراً هوَ الوجودُ الحَقُّ المُتَرادِفُ مَعَ تَماسُكِ جَوهَرِهِ بِحَقيقَةِ المَسيحَ-اللهِ، عَبرَ شَخصَانِيَّةِ الشَبابِ الَتي تُمَيِّزُها مَناقِبِيَّةٌ تَكسِرُ الرِياءَ. هوَ أكثَرُ مِن مَعرِفَةِ الماهِيَّةِ الحَقيقيَّةِ للهِ-المَسيحَ. هوَ إستِجلاءُ ضَرورَةِ الحَقيقَةِ بِوجودِ اللهِ، وَمَسيرَةُ الفَرَحِ إلَيهِ في ال"هُنا" وَ"الآنَ". هوَ ذُروَةُ الإيمانِ إذ الإيمانُ قَلبٌ يُحَرِّرُ مَعَ اللهِ، وَعَقلٌ مُتَحَرِّرٌ في اللهِ.

لبنانُ هَذا لَيسَ مُجَرَّدَ دَعوَةٍ لإعتِناقِ الخَيرِ والجَمالِ في ما هُما صِنوانِ لِلحَقيقَةِ، بَل إرتِدادٌ الى كِيَانِيَّةٍ دِيَالِكتِيَّةٍ لاهوتِيَّةٍ-وجودِيَّةٍ تَجمَعُ حُرِيَّةَ الإنسانِ الى حُرِيَّةِ اللهِ: خَلاصِيَّةَ "الجُذورِ" وَ"المِعنى" لِمواجَهَةِ الشَرِّ الَذي أقصى اللهَ في ما هوَ نورٌ، والإنسانَ في ما هوَ إشعاعُهُ.

جُذورُ لبنانَ: المَسيحُ، وِمعناهُ في المَسيحَ؟.

مَعَ بِنِديكتوسَ الكَبيرَ، لبنانُ-المَسيحَ، في ما هوَ أمانَةُ المُتناهِيَ لِلامُتَناهِيَ، إستَبانَ جُذورَ العالَمِ في مَسيرَتِهِ مِنَ الواقِعِ الى المُطلَقِ، وَضَرورَةَ الإنسانِيَّةِ في مُلاقاتِها اللهَ.

...أمّأ مُصطَنِعو التَباكِيَ، فَحَقارَتُهُم داسَتها طَهارَةُ إتِّحادِهِ بِمَن هوَ "الطَريقُ وَالحَقُّ وَالحَياةُ"... كَما داسَهُم لبنانُ، في عِقرِ أوجِرَتِهِم.