كان الأسبوع الفائت حافلاً بالروحانيّات والعقيدة. لأنَّنا عيَّدنا لكوكَبين لامِعَين وقدّيسَين، هما أنطونيوس الكبير (١٧ ك٢) وأثناسيوس الكبير (١٨ك٢).

أتَت حياةُ هَذَين القِدِّيسَين[1] اللذَين عاشا في مِصرَ في القرن الرابع، لتُكَوِّنَ حَقيقةً دامغةً بأنَّ الإيمانَ الصَّحيحَ لا يقومُ على أراءٍ شخصيّة، بل على التسليم الكنسيّ الصحيح، الذي يقودُ للمعرفَة الصحيحة، وعنوانُها: "الرّبُّ يسوعُ المسيحُ إلهُنا ومخلّصُنا قد تَجَسَّد لخلاصِنا".

كان يوجدُ بين هَذين العَلَمَين علاقةٌ روحيّةٌ كبيرة. فقد كان أثناسيوس تلميذًا لأنطونيوس، بحيث يذكر الأوّل: "تعلّمتُ مِن أنطونيوس لأنّني مَكثتُ معهُ كثيرًا، وسَكبتُ ماءً على يده". مُشيرًا بذلك إِلى أنَه قد قامَ بخدمَتِه. كذلك قال عنه بأنّه: "طبيبُ الروح" و"متواضعُ الروح". فِلِهاتَين الصفتَين معنىً كبيرًا جِدًّا.

لم يكن للصفةِ الأولى أن تتحقَّق لو لم يكتسب الثانية. لأنَّ التواضعَ أعظمُ الفضائل. فالمتواضعُ لا يمتَلِئ بالنِعَم فَحسب، بل يصيرُ منارةً لكثيرين، كما كان القدّيس أنطونيوس الكبير، والذي أضحى أبًا روحيًّا كبيرًا يَلدُ أولادًا للمسيح وليس لنفسه.

للقِدِّيس أنطونيوس حادثةٌ شهيرةٌ في الكبرياء، عندما أزمعَ يومًا أن يَقعَ في شباكِ قاتل النِعَم، فسأل الرّبَ: "هل يوجد أعظم منّي يسبّحك نهارًا وليلًا؟" فَأراه الرّبُّ إسكافيًّا يتنفّس صلاةً مع كلِّ شهيق وزفير، ويشكر الله على كلّ شيء. فكانَ يجلسُ في متجرِه يُصلِحُ الأحذية، وفي الوقت نفسه كان يحيا في حضرة الله.

​​​​

عند ذلك لفظ القدّيس أنطونيوس جملته الشهيرة: "رأيتُ فِخاخَ العدّوِ في الأرضِ لامعةً، فقلتُ في نفسي، مَن ينجو مِنها؟ فأتاني صوتٌ مِن السماء يقول: المتواضِع".

في هذا السِياق، تَنتَصِبُ أمامنا التَطويبة الأولى: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ"(متى ٣:٥). مساكينُ الروح هم الذين يعتبرون أنَّ غناهم الوحيد هو الرّب. هذا قِمَّةُ التواضع.

يُحذّرُ القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفَم مِن آفَةِ الكبرياء، قائلًا: "كما أن الكبرياءَ هو ينبوعُ كلِّ الشرور، هَكذا التواضعُ هو أساسُ كلِّ ضَبطٍ للنَفْس"، وأيضًا يقول: "التواضعُ أساسٌ يَقومُ عليه البِناءُ في أَمان، فَإِن نُزِع هذا عنّا، حتىّ وإن بَلغ الإنسانُ السماوات، ينهار تمامًا، ويبلغُ إلى نهايةٍ خطيرة، بالرغم من ممارسته الأصوام والصلوات والعطاء والعفّة وكل عمل صالح. بدون التواضع ينهار كل ما تجمعه داخلك ويَهلِك".

لذلكَ فإنَّ نَفسَ المتكبّر هي كَمَن يَملأُ سلّة القش بالماء. فيبقى صاحبُها عطشانًا، فلا شيء يَرويه إلّا ماء الحياة من يسوع الحياة.

طبعًا، إنَّه ليس بالأمر السهل على الإطلاق. فهذا يَتَطلَّبُ يقظة شاملة مُتَوَلِّدَةً من جِهادٍ ثابت، ومراقبةٍ متواصلةٍ للذاتِ مِن أجل التَنقِيَة، واعترافٍ صادقٍ، وسَعيٍ جَدِّي للتَّوْبة، واستعدادٍ حثيثٍ لتغيير المسلكيّة.

هنا تحديدًا يأتي وصفُ القدّيس أثناسيوس الرائع عن القدّيس أنطونيوس: "كان كلَّ يوم شهيدًا أمام ضميره".

يا لهذا القول الرهيب! فالشهيد مَن يموتُ عن ذاته مستبسلًا في تنقيةِ ذاته من كُلِّ ما لا يليقُ بالمسيح.

أمّا الضمير فهو "المسيح"، فإنَّنا نكتشفُ ملكوتَ الله في داخلنا بقدر ما ننقّي أنفسنا.

هذا ما جَسَّده القدّيس أنطونيوس في حياتِه. فبَعدَ أن باعَ كلَّ ما يَملك ووزَّعَه على الفقراء، ووهَبَ شقيقتَه حِصَّتها، تَنَسَّك في عُمق الصحراء، فحوّلها إلى واحةٍ روحيّة.

كان كلامُه مُطابقًا لحياته! كاتبَه مَرّة الإمبراطور قسطنطين يسأله النُصحَ له ولأولاده، فأجابه القدّيس: "ضعوا الدينونة نصبَ أعينكم، وليكن حكمُكم عادِلًا في كلّ شيء".

أمّا القدّيس أثناسيوس الكبير الذي لُقِّبَ بأبِ الإيمانِ المستقيم، فكان بطريرك الإسكندريّة. وقد ناله من الاضطهاد ما يكفي لأمانته للمسيح. فمن أصل ٤٤ سنةً من خدمته قضى منها ١٧ سنةً في المنفى، إذ نُفي خمس مرّاتٍ على يد أربعةِ أباطِرة. قيل له مرّة: "ألم تتعب بعد يا أثناسيوس؟ العالم كلّه ضدّك"، فأجاب بهدوء وثبات: "وأنا ضِدّ العالم".

أتى هذا الاضطهادُ مِن قِبَلِ أتباعِ هرطقة أريوس الذين كانوا يعتبرونَه عدوَّهم اللدود. بدأ صدامه معهم عندما كان شمّاسًا مرافقًا لبطريركه ألكسندروس إلى المجمع المسكوني الأوّل، الذي انعقد في نيقية عام (٣٢٥م)، لدحض تعاليم أريوس، الذي أنكر ألوهيّة يسوع.

كان لأثناسيوس الدَورُ الأبرزُ في هذا المجمع في الدفاع عن الإيمان المسيحيّ القويم المسلّم إلينا مِن الرّب، والمُدَوَّنِ من الرسل الأطهار، والمحافظِ عليه من الآباء القدّيسين بالروحِ القدس، وَديعةً إلهيّةً لكلِّ الأجيال.

دانَ المجمعُ أريوسَ، لكنَّ هرطقتَه استمرّت حتّى بعد موته، واجتاحت الكنيسة. فاستمالت الأباطرة، حتّى إنَّ القدّيس هيلاريون (ق ٤) قال: "الكنيسة جَمعاء تَئِنُّ من الأريوسيّة". نتيجة ذلك، استطاع الأريوسيّون اضطهادَ أثناسيوس الذي أنتُخِبَ بَطريَركًا خَلَفًا لألكسندروس.

​​​​​​​

الجديرُ بالذكر أَنَّ القدّيسَ أنطونيوس سانَدَ بقوَّةٍ القدّيس أثناسيوس في مواجهته ضِدَّ الأريوسيّين، مُعتبِرًا أنَّها قَضِيَّةُ كلّ مؤمن. فأتى إلى الإسكندريّة وعلّم أنَّ الإيمان المسيحيّ ليس نظريّات واستنتاجات، بل شهادةً حيَّةً من قلبٍ يُصَلّي وَيحيا بالمسيح، فقال: "إنَّ مسيحَهم ليس المسيح الإله الذي صار إنسانًا وبقيَ إلهًا، والذي يَعرفني وأنا أعرفه".

كما شَدَّدَ على عدمِ إجراء أيّ حِوار مَعَهم، لأنّه بعدَ أن فَسَّر لهم سابقًا، أَصَرّوا على ضلالهم، مؤكّدًا: "أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ"؟ (٢ كورنثوس ١٤:٦).

كانَ دخولُه المدينةَ شبيهًا بدخول قائدٍ عظيمٍ منتَصِر، "شعانين" ثانية. تَجمهَر حوله مؤمنون تملؤهم الغبطة. كانوا ينظرون إلى وجهه النورانيّ ويقولون: "أتى الرجلُ القدّيس".

كذلك أكّد القدّيس أثناسيوس أنَّه لأجلِ خلاصِنا، "الكلمةُ" صار إنسانًا.

​​​​​​​

خلاصة، نموذج هذان القدّيسان رائعًا يُحتذى به. إنَّهما رجلا صلاة بامتياز. صحيحٌ أنَّ أثناسيوس تَبَحّر كثيرًا في العلوم والمعرفة، إلّا أنّه كان يؤكّد دائمًا على ما نادى به أنطونيوس: "اللاهوتُ دونَ الروحِ القدس وحياةِ التقوى، والصلاةِ الحارَّةِ المستمرّة، هوَ ظلمَةٌ وانحراف".

لذلك قيل عن أثناسيوس أنّه كان يُسمعُ صراخُه مِن الإسكندريَّة إلى القسطنطينيّة حين كان يُدافِعُ عنِ الإيمان. وقد قال عنه القدّيس غريغوريوس النيصي: "إذا صودِفَ وسَمِعتَ أثناسيوس يَعِظ، وليس معكَ ما تُدَوِّنُ عليه كلماتِه، اكتُبها على ثيابك".

نهاية، ما نَعرفُه عن القدّيسِ أنطونيوسَ الكبير هو ما كَتبه القدّيس أثناسيوس الكبير.

كتب سيرته ليقول لنا: "أصبح اللهُ إنسانًا ليتألَّهَ الإنسانُ بالنِعمَة. فأنظروا إلى القدّيس أنطونيوس ملاكِ البَريّة، لتُدرِكوا هذا الأمرَ يَقينًا".

إلى الربِّ نَطلُب.

[1]. القديس أنطونيوس ٢٥١-٣٥٦م. القدّيس أثناسيوس ٢٩٨/٦- ٣٧٣م.