أسوأ من سابقاتها، جاءت أولى جلسات الانتخاب الرئاسية للعام الجديد، بعد انقطاع "قسري" استمرّ زهاء شهر، فرضته عطلة الأعياد، ومدّدته وفاة رئيس مجلس النواب الأسبق حسين الحسيني، إذ حملت مؤشّراتها بقاء النواب في الحلقة "المفرغة" ذاتها، بين التصويت لأشخاص غير قادرين على الوصول إلى الأكثرية المطلقة من البرلمان، وأوراق بيضاء تبدو "هروبًا" في أحسن الأحوال، وشعارات باتت مملّة، ولو تفنّن البعض بابتكارها.

لعلّ ما ثبّتته جلسة الخميس الانتخابية هو أنّ أحدًا لم "يستغلّ" العطلة القسرية كما كان يفترض، فرصيد النائب ميشال معوض مثلاً لم يتقدّم، بل تراجع إلى الوراء أكثر، وكتل المعارضة لم تتقدّم خطوة إلى الأمام في سياق مشروع "توحيدها"، فيما بقي معسكر "حزب الله" وحلفائه على انقسامه، وأكمل "التيار الوطني الحر"، رغم مبادرته "الموعودة"، توجيه "الرسائل بالصندوق" إلى حليفه المفترض، من خلال تقليص حجم الأوراق البيضاء.

وسط كلّ ذلك، شكّل نواب "التغيير" المنقسمون بدورهم على أنفسهم، "مفاجأة" الجلسة، بعدما بادر اثنان منهم، النائبان ملحم خلف ونجاة عون صليبا، إلى إعلان "الاعتصام المفتوح" داخل القاعة العامة لمجلس النواب، احتجاجًا على عدم عقد "دورات مفتوحة" حتى انتخاب رئيس للجمهورية، لتكرّ السبحة بعد ذلك، فيتضامن معهما زملاءهما "المفترضون" في تكتل "التغيير"، وفي كتل معارضة عديدة، منها "الجمهورية القوية" في أول تقاطع من نوعه.

وإذا كان رئيس مجلس النواب نبيه بري بدا "مستاءً" من هذه الخطوة، هو الذي لم يدعُ إلى جلسة جديدة بعد رفع الجلسة، بل تعمّد الدعوة إلى جلسة للجان المشتركة في الموعد "التقليدي" للجلسات، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح، فهل يمكن لاعتصام النواب غير المسبوق أن يغيّر شيئًا على أرض الواقع، ويسرّع بالتالي انتخاب الرئيس، أم تكون نتيجته معاكسة، فيطيح بجلسات الانتخاب الرئاسي حتى إشعار آخر، يقرّره بري فقط؟!.

في المبدأ، تتفاوت وجهات النظر حدّ التناقض من خطوة النواب، بين مؤيدين لها يعتبرون أنّها تحمل "هدفًا نبيلاً" لا بدّ منه في ذروة "المهزلة" التي تكرّسها جلسات "رفع العتب" الأسبوعية، ومعارضين لها يضعونها في خانة "الشعبوية المفرطة" التي تكرّس أداء نواب اختاروا منذ اليوم الأول لدخولهم البرلمان "لعبة المزايدات" فقط، متناسين أنّهم باتوا جزءًا من المعادلة السياسية، وإن اتفق الجميع على كونها "رمزية"، لن تقدّم أو تؤخّر الكثير.

بالنسبة إلى "التغييريين" ومن يدور في فلكهم، فإنّ الخطوة، وإن لم تحقّق الإجماع حتى في أوساط المحسوبين على "17 تشرين"، تعتبَر مهمّة من حيث الدلالات، بعدما ضربت أكثر من عصفور بحجر، علمًا أن إنجازها الأول تمثّل بكسرها للجمود الذي يتخبّط به الملف الرئاسي، بدليل إعادة الإعلام العالمي تسليط الضوء على الاستحقاق، بعدما عكف في الأسابيع الأخيرة عن تغطية جلسات بات الجميع يشعر أنّها "وقت ضائع".

وإضافة إلى كسر الروتين، نجحت خطوة "اعتصام النواب" وفق المؤيدين لها، في إعادة فتح النقاش حول "دستورية" الجلسات ونصابها، وبالتالي التصويب بشكل مباشر على النواب الذين يعمدون إلى "تطيير النصاب" بمجرد انتهاء الدورة الأولى، علمًا أنّ المطلوب تكثيفها حتى تصاعد الدخان الأبيض، كما حصل في انتخابات رئيس مجلس النواب الأميركي أخيرًا، وكما يحصل عادة عند اختيار البابا، أو حتى البطريرك الماروني في لبنان.

لكن، في مقابل هذه القراءة الإيجابية لخطوة النواب، ثمّة من يعتبرها "مسرحية هزلية" تتفوّق في "هشاشتها" على المشهد "الهزيل" للجلسات الانتخابية التي كانت تحصل، خصوصًا مع ما رافقها من "استعراضات" تضعها حكمًا في خانة "البروباغندا والشعبوية"، من دون تردّد، وهو ما تجلى في صور "السلفي" التي انتشرت للنواب وسط الظلام الحالك داخل القاعة العامة، وخروجهم ليقولوا إنّهم "يعانون مثلهم مثل كلّ الشعب اللبناني".

ويرى المعارضون لخطوة النواب أنّ "خطيئتها الأساسية" أنّها أخطأت العنوان، ما يتعذر عليها إنتاج الحل، فعندما يخطئ الطبيب مثلاً في "توصيف" المرض، تصبح مداواة المريض مهمّة شبه مستحيلة، وبالطريقة نفسها، اعتبر النواب أنّ المشكلة في عدم عقد جلسات مفتوحة، علمًا أنّ أحدًا لن يغيّر رأيه، طالما أنّ أيّ تفاهم لم يحصل مسبقًا، وهو ما يرفضه جزء من النواب المعتصمين، الذين أطاحوا بدعوات الحوار المتكرّرة.

إزاء ذلك، تُطرَح أسئلة عن آفاق الاعتصام الرئاسي، خصوصًا بعد خطوة رئيس البرلمان بعدم دعوته إلى جلسة انتخابية جديدة في الموعد المقرّر، وهو ما طرح العديد من علامات الاستفهام عن المشهدية "الرئاسية" الجديدة، وما إذا كان بري بصدد طرح معادلة "لا جلسات طالما الاعتصام مستمرّ"، خصوصًا أنّ العارفين بأدبياته يؤكدون أنّه يرفض التعامل معه بهذا الشكل، وهو قال لخلف من اللحظة الأولى "مش عليّي هودي".

إلا أنّ العارفين يعتبرون أنّ بري أراد بدعوته إلى جلسة لجان مشتركة الخميس المقبل، بدل جلسة الانتخاب المفترضة، توجيه "رسالة مباشرة" للمعتصمين، بأنّه لا يمكن أن يرضخ لمثل هذا النوع من الضغوط، لكنّهم يرجّحون أن يعود إلى الدعوة لجلسات انتخابية جديدة في القريب العاجل، تفاديًا لتحميله أيّ مسؤوليات إضافية، ولو أنّ هناك في الكتل المحسوبة عليه من يناقش إمكانية "تعطيلها" بكلّ بساطة، من الدورة الأولى.

ورغم أنّ بري يفترض أن يتفهّم حقّ النواب بالاعتصام والإضراب، إن أرادوا ذلك، وهو الذي سبق أن خاض مع حليفه "حزب الله"، اعتصامًا مفتوحًا في الشارع ضدّ حكومة فؤاد السنيورة، إلا أنّ الثابت يبقى أنّ هذه الخطوة لن تفضي إلى أيّ تغيير في المعادلة، فـ"تحرير" استحقاق الرئاسة لا يحتاج إلى جلسات مفتوحة، في ظلّ تركيبة البرلمان "الهشّة"، بقدر حاجته إلى حوار "جدّي"، لا تتوافر مقوّماته حتى الآن، طالما أنّ هناك من لا يزال ينتظر "كلمة سرّ" خارجية!.