منذ بدء التحقيق بما وُصِفت يومًا بـ"جريمة العصر"، في إشارة إلى انفجار ​مرفأ بيروت​، الذي يفترض مبدئيًا أنّه مسّ جميع اللبنانيين في الصميم، كان واضحًا أنّ الملفّ بحساسيّته المفرطة "متفجّر"، لا يشبه غيره من الملفات، خصوصًا بعدما وُضِعت على الطاولة فرضيّة "الإهمال الإداري"، على أنّها السبب الرئيس لتخزين نترات الأمونيوم التي أدّى انفجارها لسقوط مئات الضحايا والجرحى، وتدمير العاصمة بيروت على بكرة أبيها.

ورغم الوعود التي أطلقتها السلطات المعنيّة في الأيام الأولى حول تحقيق "شفاف وسريع"، لا تتجاوز مدّته أصابع اليد الواحدة كما قيل يومًا، إلا أنّ مسار التحقيق منذ إحالة القضية إلى المجلس العدلي بدا شديد التعقيد، من تعيين المحقق العدلي الأول، ثمّ كفّ يده بعد ادعائه على سياسيين، فتنحيته، وتعيين محقّق عدلي آخر، سار على درب سلفه، وذهب أبعد منه في المواجهة، فكُفّت يده مرارًا وتكرارًا، من دون أن تنجح محاولات تنحيته بالقانون.

خلال هذا المسار، القضائي افتراضيًا، وقع المحظور، فكادت الفتنة تحصل على الأرض، عندما استخدم بعض الأطراف الشارع منصّة للتعبير عن تأييدهم أو رفضهم لأداء المحقق، إلى أن وُجِد الحلّ "السحري" الذي وضع الملفّ جانبًا لأكثر من عام كامل من الزمن، ألا وهو "تجميد التحقيق" بكلّ بساطة، من دون اكتراث لا بعائلات الضحايا الذين وجدوا أنفسهم عاجزين، ولا بعائلات الموقوفين الذين شعروا بظلم ما بعده ظلم.

لكنّ كلّ هذا المسار في وادٍ، وما حصل في الأيام الأخيرة في وادٍ آخر، على وقع ما اختلف المتابعون على وصفه بـ"انتفاضة" أو "تمرّد" القاضي طارق البيطار، على قرار تكبيله عن العمل، وما استتبعه من "فوضى" غير مسبوقة في العدليّة، أثارها دخول النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، "المتنحّي" عن الملف، ما طرح سؤالاً كبيرًا ومشروعًا: هل انضمّ القضاء اللبناني إلى قائمة "ضحايا" انفجار مرفأ بيروت؟!.

لعلّ من تابع "فوضى" الأيام الماضية التي ترقى لمستوى "الجنون" لا يتردّد في الإجابة بإيجاب على هذا السؤال، فحتى لو تفاوتت وجهات النظر بين مؤيدين لقرارات القاضي البيطار ومعارضين لها، ومؤيدين لقرارات القاضي عويدات ومعارضين لها، إلا أنّ النتيجة تبقى أنّ "هيبة" القضاء قد ضُرِبت، بعدما أضحى أسير التجاذبات السياسية، ما يجعل عنوان "من بيت أبي ضُرِبت" الذي اختاره نادي قضاة لبنان للتعبير عن واقع الحال، أكثر من معبّر.

وإذا كان صحيحًا أنّ العودة "الجدلية" للقاضي طارق البيطار لاستئناف تحقيقاته، استنادًا إلى دراسة قانونية أعدّها، تسبّبت بهذه الفوضى، فإنّ الصحيح أنّ "شرارة" انفجار مرفأ بيروت أصابت القضاء منذ زمن طويل، منذ بات "تجميد التحقيق" بجريمة بهذا الحجم أمرًا عاديًا وروتينيًا، ولا يحتاج لأيّ "استنفار"، وكذلك منذ وُضِع اقتراح "القاضي الرديف" على الطاولة، والذي كاد يقسم مجلس القضاء الأعلى بحدّ ذاته، فيما لو نجح في الاجتماع.

عمومًا، وبمعزل عن الحكم على القرارات القضائية، يرى البعض أنّ القاضي البيطار أخطأ حين استأنف تحقيقاته بلا مقدّمات، بعد سنة وشهر من تجميدها، ولو استند في ذلك إلى دراسة قانونية، دفعت كثيرين إلى التساؤل عن "سرّ" خروجها إلى العلن اليوم، وإلى "التلميح" إلى قوة دفع خارجية تلقاها في الأيام الأخيرة، خصوصًا أنّ المحقق العدلي استقبل وفدًا قضائيًا فرنسيًا قبل أيام فقط من اتخاذ خطوته المباغت، التي حرّر نفسه بموجبها من كلّ القيود والضغوط.

في المقابل، يعتبر آخرون أنّ "الخطيئة الكبرى" ارتكبها القاضي عويدات، بقراراته "الصادمة"، التي قد توضع في خانة "النكايات" ليس إلا، ولا سيما أنّه "متنحٍّ" قانونًا عن الملف، فإذا به ردًا على عودة القاضي "المكفوفة يده" وفق توصيف عويدات، يقرّر بدوره أنه ليس "متنحّيًا"، فيقرّر إطلاق سراح جميع الموقوفين، وتحويل المحقق العدلي إلى "المتهم الوحيد" ربما، في "سابقة قضائية" تثير الكثير من الجدل في الأوساط القانونية قبل السياسية.

ولعلّ "الثغرة الأكبر" في القرارات التي اتخذت، تمثّلت في "السيناريو" الذي رافقها، وأتاح لأحد الموقوفين المحرّرَين، محمد العوف الذي يحمل الجنسية الأميركية، إلى حجز "واي واي تيكيت" إلى الولايات المتحدة، قبل صدور قرارات منع السفر، وكأنّ هناك من كان ينتظر "إقلاع" الرجل قبل إصدارها، علمًا أنّ كثيرين يعتقدون أنّ إطلاق العوف تحديدًا يشكّل "كلمة سرّ" كل الفوضى التي حصلت، باعتبار أنه كان "مطلبًا أميركيًا كبيرًا".

إزاء ما تقدّم، يصبح الأكيد أنّ المحظور قد وقع، وأنّ القضاء بات فعلاً "ضحيّة" التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، تحقيق يبدو اليوم مفتوحًا على المجهول، مثله مثل السلطة القضائية، التي قد لا يكون يسيرًا بالنسبة إليها استعادة "هيبة" ضربتها بنفسها، علمًا أنّ المعنيين يحمّلون السياسيين من كلّ الأطراف المسؤولية الكبرى عن ذلك، إذ إنّ احترام القوانين كان كفيلاً بتجنيب المؤسسة القضائية "شرور" الجنون الواقع.

وإذا كان اجتماع مجلس القضاء الأعلى "تعذّر" انعقاده قبل أيام، بفعل ضغط الشارع، فإنّ أحد السيناريوهات المطروحة يقضي بتعيين "قاضٍ رديف" يتولى التحقيق بملف انفجار المرفأ، طالما أنّ القاضي البيطار لا يستطيع استكمال مهمته، وقد أضحى "مدّعى عليه" من النيابة العامة، إلا أنّ مثل هذا السيناريو يطرح الكثير من الأسئلة، سواء حول وقعه على الشارع الرافض، أو حتى على قانونيته، وقبل ذلك، واقعيّته.

فبالنسبة إلى كثيرين، لن تعني "تنحية" القاضي البيطار، بعد القاضي فادي صوان قبله، سوى "دفن" التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، لأنّ أيّ محقق يتمّ تعيينه وفق قاعدة "الثالثة ثابتة"، سيوضعع في خانة "المسيَّس" سلفًا بالنسبة للكثيرين، ولن يكون مطلوبًا منه وضع التحقيق على "الصراط المستقيم" بطبيعة الحال، بل "الاتعاظ" من تجربة سلفيه، وبالتالي تجنّب السير بين الألغام والمسّ بالمحرّمات، حتى لا يكون مصيره "مشابهًا" لمن سبقه.

هكذا، يمكن القول إنّ القوى السياسية التي "تحالفت" منذ اليوم الأول ضدّ محقّق تجاوز "الخطوط الحمراء"، وإن أخطأ ربما ببعض التصرفات التي وُصِفت بـ"الشعبوية"، نجحت في تكريس سلطتها ونفوذها، ولو جاءت هذه المرّة على حساب القضاء كجسم مستقلّ، لكنّها تركت للتاريخ أن يحكم كيف "طُمس" تحقيق بانفجار من الأكثر ترويعًا في التاريخ، حتى ما عاد ينقص سوى اعتبار الجريمة "كأنّها لم تكن"!.