نَقرأُ في خدمةِ غُروبِ عيدِ دُخولِ رَبـِّنا يَسوعَ المسيحِ إِلى الهَيكلِ (٢ شباط)، قِطعةَ صلاةٍ لبطريركِ القسطنطينيَّة جرمانوس (٦٣٤-٧٤٠م) وهي: "قُلْ يا سمعانُ مَن أنتَ حاملٌ على ساعديك في الهيكل بابتهاج. نحوَ مَن تَصرخُ هاتِفًا: إنّي الآن قد أُعتِقتُ، لأنّي أبصرتُ مُخلّصي"؟.

فيُجيب سِمْعان: "هذا هو المولودُ مِن البتول. هذا هو الكلمةُ الإلهُ مِن الإله. الذي تجسّدَ مِن أجلنا. وخلّصَ الإنسان. فلهُ نَسجُد".

في الحقيقة لا شيءَ أجمل مِن النصوصِ الليتورجيّة تُخبرنا عن الأعياد السيّديّة، فهي عُصارةٌ وانصهار!.

عصارةُ مسيرةِ حياةٍ عاشها آباءٌ قدّيسون بالروح القدس، وهم يجاهدون ليتنقّوا، ويُصَلّون ويَقرأون خُبراتِ مَن سبقَهم مِن الآباءِ القدّيسين. فكانوا خيرَ مفسّرين للإيمان والأحداثِ الإنجيليّة. إذ أتت كتاباتهم امتدادًا لعمل الروح فيهم، بعد أن قَبِلوا، بملءِ إرادتهم، أن يُفرِغوا ذواتِهم ويلبَسوا المسيح.

أمّا انصِهارُ جهادِ هؤلاءِ الآباءِ فهو صَلَواتِهم وسعيهِم الدائمِ للتوبة مع قراءاتِهم وفهمِهِم للعقيدَة بالروح القدس.

فقد ركزّت الكنيسةُ على أنَّ اللاهوتيّ هو المُصَلّي. هكذا تُصبحُ الكلمةُ الإلهيّةُ فينا مسلكَ حياة، لا كلمات فقط نردّدها بشفاهِنا دونَ الروح، وإلّا نالَنا ما قاله اللهُ عن الفرّيسيين: "يَا مُرَاؤُونَ! حَسَنًا تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلًا: يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا"(متى ٧:١٥-٨).

لنَنضمِّ الآنَ إلى سِمْعانَ الشيخِ في قِطعةِ الصَّلاةِ الرائعة أعلاه، والتي هي على شكلِ حِوار، محاولين الغَوصَ في عُمقِ جمالِ كلماتها، إِنْ مِن ناحيةِ الأسئلة التي طُرِحَت، أَم مِن ناحيةِ جوابِ الشَّيْخ الجَليل.

"مَن أنت حامِلٌ يا سِمْعان؟" لا يمكن لِعقلنا البشريّ أن يَستوعبَ جوابَه. هو يُفَسَّر فقط بالمنطقِ الإلهيِّ الذي هو "مَحبّة لامتناهية". فِسمْعانُ يَحمِلُ خالِقَه وخالِقَنا! يَحمِلُ اللهَ القَدير. يَحمِلُ اللهَ الذي أصبحَ إنسانًا وبقي إلهًا ليُخلّصنا ويَفديَنا. هل هذا معقول؟ نَعم معقول، لأن الله أراد أن يَتّحِدَ فينا ليرفعنا إليه، فتَجسَّد!.

إنّ سِمْعانَ الذي انتظرَه: "كَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ"(لوقا ٢٦:٢).

هذا هوَ عَملُ الروحِ في كلِّ إِنسانٍ يَقتَبلُه: "لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ"(١كورنثوس ٣:١٢).

لهذا نَجِدُ سِمْعان يَصرخُ: "أبصرتُ مُخلّصي"، واسمُه "يسوع"، ومعناه "الكائن/الله الذي يُخَلّص".

قَبلَ صَرختِهِ هَذِهِ قال شيئًا مهمًّا جِدًّا: "إنّي الآن قد أُعتِقتُ". مِن ماذا أعُتِقَ يا تُرى؟ لقد أُعتِقَ مِن الجَسَد التُّرابيّ. فما حياتُنا على الأرض إِلّا فُرصةَ قداسةٍ نَقتنصُها بِالتَّوْبة، وعُبورًا مِن الحياةِ الفانية إلى الحياةِ الأبديّة. هذا هو قَصدُ خَلقِنا.

ففي عِظَةٍ للّقدّيس غريغوريوس النيصصي (ق٤) أثناءَ دفنِ مَلاتيوس، قال فيها: "ثمينٌ في عينيِّ الرَّبِّ موتُ مِثلِ هذا الرَّجُل، أو بالأحرى ليس المَوْت، بل كَسرُ القيود، كما يُقال: لقَد كَسَرتَ قَيدي. فسِمعانُ قد تَركَ الدُّنْيا. لقَد تَحرَّر مِن عبُودِيّة الجَسَد. انكَسَر الفخُّ وطارَ الطائِرُ بعيدًا".

هذا تمامًا ما قالَه سمعانُ عِندما أخذَ يسوعَ بينَ ذراعَيه: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ..."(لوقا ٢٩:٢-٣٠).

هذا أيضًا ما سَيكتُبه بولسُ الرسول إلى أهلِ فيليبي، بعدَ سِمْعانَ بحوالي ستينَ عامًا: "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (فيليبي ٢٣:١).

كتبَ بولسُ هذه الآيةَ وهوَ في السِّجنِ في روما، حيثُ كان جَسدُهُ مَسجونًا أمّا روحُهٌ فَطَليقَة تُسبِّحُ الرّبّ، وكانَ يُعزّي كلَّ مَن يزورُهُ ويُقَوّيه، كأنَّه هُمُ السُّجناءُ وَهوَ الطَليق. وذلك لأَنَّه: "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ"(٢ كورنثوس ١٧:٣).

فَكَمّ مِن إنسانٍ يَعتبرُ نفسَه حُرًّا، لا بَل حاكمًا وسُلطانًا، إِنَّما هو في الحقيقةِ عَبدٌ لِشهواته، والشّرّ يَنمو فيهِ يومًا بَعدَ يوم؟.

وضعتِ الكنيسةُ تَسبِحةَ[1] سِمْعانَ بالكاملِ في نهايةِ خِدمةِ صلاة الغُرُوب، لِتقولَ لنا: ها قد انتهَينا مِن يومِ أَمس، وَفحصنا ضَميرَنا على ضوءِ الإنجيل، وتُبنا وغَيّرنا مَسيرةَ حياتِنا، وَبتنا مُستعدينَ للانطلاقِ إلى حضنِ الله.

إذا كانَ المَثلُ الشعبيُّ الشائعُ يَقول: "محظوظٌ الذي له يومَ غد"، فالمسيحيّةُ تقول: "محظوظٌ الذي له يومًا معَ المسيح".

في قِطعةِ الصَّلاة أعلاه، المُقدَّمُ هوَ دائمًا الرَّبُّ ابنُ البَتول، وهذا ما قالَه الملاكُ جِبرائيلُ للّعذراء: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لوقا ٣٥:١). إنّهُ الكلمةُ الإلهُ مِن الإله.

لقد أَخَذَ سِمْعانُ الرَّبَّ عَلَى ذِرَاعَيْهِ لِنأخُذَهُ نحنُ إلى قُلُوبِنا. ينتقلُ الرّبُّ مِن يَديّ والدةِ الإله إلى يَديّ سِمْعانَ الشيخ. فما أجملَ أن ينتقلَ يسوعُ مِن يَديّ مريمَ إِلى أَيدينا، وَمِن قَلبِها إِلى قَلبِنا، وَمِن أحشائِها إلى أحشائِنا.

إنَّ أيقونةَ هذا العيدِ تُظهِرُ هذه الحَركةَ الانتقاليّة. والِدةُ الإله تَمدُّ يَدها بِحركةِ عطاءٍ وَتَقدِمَة، وسِمْعانُ الشَّيخ يمدُّ يَدَيه بحركةِ تَلقّي. الباقونَ مَشدودونَ إلى الحدثِ الإلهيّ، لأنَّ يسوعَ هُوَ المِحوَر، والكلُّ في الكل. هذا تمامًا ما كُتِبَ على الرايةُ التي كانت تحملُها حَنَّةُ النَبيّة، بنتُ فنوئيل، التي كانت لا تفارِقُ الهيكلَ تَنتَظرُ خلاصَ الرّب، فتقولُ الرَّاية: "هذا الطِّفْلُ الرَّضيعُ ثَبَّتَ السَّماءَ وَالأَرض".

خُلاصة، كان اللهُ بالنسبةِ إلى اليهودِ يَسكنُ في الهيكل، أَمّا في هذا العيد الحاضرِ فيقولُ لنا الرَّبّ: أنا هو الهيكلُ الحقيقيّ، فَلا أُقيمُ في الحجر، أيّ في الهيكلِ الحجريّ، بل فيكم، في قلوبِ البَشَر.

نهايةً، في هذا العيد يَتِمُّ لِقاءُ المخلوقِ بالخالق، العَهدُ القديم بالجديد. وسِمْعانُ الشَّيخِ يقول: يا رَبُّ، خَلاصَكَ انْتَظَرْتُ، رَأيتُكَ فابتَهَجتُ، أَخَذُتُكَ عَلَى ذِرَاعَيّ فانطلقتُ، وإِليكَ انضَمَمتُ. فيا أيُّها الرَّبُّ يَسوع المَسيح ارحَمني وَخَلِّصني. آمين.

إلى الرّبِّ نَطلُب.

[1]. "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" (لوقا ٣٠:٢-٣٢).