مع توقف "مهزلة" جلسات الخميس الأسبوعية المخصّصة "افتراضيًا" لانتخاب رئيس للجمهورية، إثر إحجام رئيس مجلس النواب نبيه بري عن الدعوة إليها "حتى إشعار آخر"، منذ إطلاق نواب قوى "التغيير" اعتصامهم المفتوح الذي أفرِغ من مضمونه، اتجهت الأنظار نحو ما يدور في "كواليس" الاستحقاق الرئاسي، "كواليس" يبدو أنّها تتّسم بجدية أكبر، رغم كلّ ما تنطوي عليه من تعقيدات والتباسات في الشكل والمضمون.

هكذا، طغت ما اعتُبِرت "مبادرة" يقودها رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق وليد جنبلاط على المشهد السياسي خلال الأسبوعين الأخيرين، في ضوء مروحة الاجتماعات التي أجراها، وتوجّها بلقاء "صديقه" رئيس البرلمان بعد استقباله وفدًا من "حزب الله"، وبين الإثنين أوفد ممثلين عنه للقاء البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي بدأ بدوره "يُعِدّ العدّة" وفق المعطيات المتوافرة، لجمع النواب المسيحيين على مائدة بكركي.

وفي وقتٍ دلّت مبادرة جنبلاط على "تخلّي" الرجل عمليًا عن خيار دعم مرشح المعارضة النائب ميشال معوض، بعدما وصف إلى أفق "شبه مسدود"، وفق ما أقرّ "البيك" نفسه في حديث صحافي، تتّجه الأنظار خلال الساعات المقبلة إلى لقاء عربي دولي "غير عادي" في باريس، سيجمع ممثلين عن كل من فرنسا والولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر، على أن يخصَّص للشأن اللبناني، في ظلّ "توقعات متضاربة" بشأن آفاقه المحتملة.

وبين حراك جنبلاط، الذي يُقال إنّ هدفه الذهاب إلى مرشح "توافقي" للرئاسة، بين سلسلة أسماء، يتصدّرها قائد الجيش العماد جوزيف عون، ولقاء باريس الذي يرى كثيرون أنه قد يشكّل "دفعًا" لمبادرة "البيك"، ولو لم يدخل في "لعبة الأسماء" صراحةً، علمًا أنّ عون لطالما صُنّف على أنّه "مرشح المجتمع الدولي"، يُطرَح السؤال: هل ترتفع فعلاً أسهم قائد الجيش الرئاسية؟ وهل يُفرَض "مرشحًا أول" في الاستحقاق الذي تأخّر كثيرًا عن أوانه؟.

لا يبدو خافيًا على أحد أنّ "مبادرة" جنبلاط نجحت في إعادة اسم قائد الجيش إلى صدارة المشهد في الأيام القليلة الماضية، ولو أنّ "الاشتراكيين" يقولون إنّ هدف الحراك الذي يقودونه هو التوصل إلى "توافق"، بمعزل عن الأسماء، علمًا أنّ اسم قائد الجيش هو واحد من أصل ثلاثة يجول بهم جنبلاط على المسؤولين، مع تأكيده "انفتاحه" على أيّ اسم رابع، وربما خامس وسادس، إذا ما تبيّن أنّ حظوظه قد تكون "جدّية" في الوصول إلى بعبدا.

ورغم تفاوت الآراء بمدى "جدية" مبادرة جنبلاط، فإنّ دلالاتها أكثر من واضحة، وعلى رأسها أنّها تطوي عمليًا "صفحة" تبنّي "الاشتراكي" لترشيح ميشال معوض، من دون "الانقلاب" بالضرورة على معسكر المعارضة بالمُطلَق، علمًا أنّ الكثير من المتابعين كانوا يترقبون هذه اللحظة، باعتبار أنّ دعم جنبلاط لم يكن جدّيًا لمعوض منذ اللحظة الأولى، كما أنّ الأخير لم يبدُ راضيًا على المبادرة المستجدّة، غير المنسَّقة مع المعارضة بما يتيح لها النجاح.

وإذا كان جنبلاط يبدو في متن "مبادرته" كمن يلاقي "التيار الوطني الحر" في منتصف الطريق، باعتبار أنّ "التخلي" عن معوض يفترض في المقابل "التخلي" عن المرشح الضمني للفريق الآخر، أي رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، من أجل الذهاب إلى خيار وسطي، فإنّ "التيار" لا يبدو مرتاحًا، بل يتوجّس من "تغليب" اسم قائد الجيش على ما عداه، وهو ما دفع الوزير السابق جبران باسيل على الأرجح إلى "التصويب المباشر" على عون.

وفي وقت يتوقع كثيرون أن يحمل لقاء باريس الخماسي المرتقب "دفعًا" لهذه المبادرة، خصوصًا أنّ زيارة "لافتة" في الشكل والمضمون سبقته، بعدما قادت السفير السعودي وليد البخاري إلى اليرزة، ولو أن المعلومات الرسمية حصرت اللقاء في "التداول بشؤون المؤسسة العسكرية"، يقلّل العارفون من الرهانات الكثيرة على الاجتماع الدبلوماسي المرتقب، باعتبار أنّ أهميته "معنوية" بالدرجة الأولى، بعيدًا عن دعم مرشح محدّد دون غيره.

وفيما يجزم المتابعون أنّ لقاء باريس لن يدخل في لعبة الأسماء من قريب أو من بعيد، باعتبار أنّ هذا الأمر يبقى "واجب" المسؤولين اللبنانيين، يعتبرون أنّ الهدف الفعليّ منه هو "تشجيع" هؤلاء على المضيّ قدمًا في المشاورات، وبالتالي "حثّ" النواب على إنجاز الاستحقاق، وهو ما ألمح إليه بيان الخارجية الفرنسية الذي أعلن عن اللقاء صراحةً، علمًا أنّ "رمزية" الاجتماع لجهة تأكيد الدول الخمس المشاركة اهتمامها بالشأن اللبناني يبقى فوق كل اعتبار.

إلا أنّ كلّ ما يدور على الأرض انطلاقًا من حراك جنبلاط، وصولاً إلى لقاء باريس، معطوفًا على سائر الاتصالات الجارية خلف الكواليس، لا يعني أبدًا وفق العارفين أنّ الانتخابات الرئاسية وُضِعت على نار حامية، أو حتى أنّ قائد الجيش أصبح "المرشح الرقم واحد"، باعتبار أنّ عقبات عدّة لا تزال تحول دون وصول الأخير إلى بعبدا، وهي لا تنحصر بـ"الفيتو" الذي يرفعه باسيل في وجهه، والذي يمكن تجاوزه ميثاقيًا بـ"مباركة" حزب "القوات اللبنانية" لانتخابه.

يقول العارفون إنّ المشكلة الفعلية تبقى في موقف "الثنائي الشيعي" الذي تركّزت باتجاهه لقاءات جنبلاط الأخيرة أساسًا، فالأخير ورغم أنّه لا يبدي "ممانعة شرسة" على اسم قائد الجيش، كما يفعل باسيل مثلاً، إلا أنّه لا يزال متمسّكًا بمرشحه غير المُعلَن، رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وهو لن يتراجع عنه، إلا في حال انكفأ الأخير من تلقاء ذاته، علمًا أنّ أجواء "الثنائي" تؤكد أنّ حظوظ الأخير لا تزال أكبر من حظوظ كل المرشحين، بمن فيهم قائد الجيش نفسه.

في النتيجة، قد تكون "الحركة" التي رُصِدت على خطّ الملف الرئاسي خلال الأيام القليلة الماضية، أكثر من مهمّة، فهي بالحدّ الأدنى نجحت في خرق الرتابة وكسر الجمود، ووضع حدّ لـ"مسرحية جلسات الخميس" التي باتت تضرّ أكثر ممّا تنفع، لكنّ المؤشرات لا توحي أنّ فيها "بركة" حتى الآن، بانتظار معطيات يبدو أنّها لم تنضج بعد، ولا سيما أنّ الكثيرين يترقبون "كلمة سر" يقول العارفون إنّها لن تأتي أصلاً!.