ذكر المدبر العام للرهبنة المارونية الأب ميشال أبو طقة، خلال ترؤسه قداس عيد مار مارون في محيط مغارة القديس مارون على ضفاف نهر العاصي، أنّ "من يحبّ نفسه يفقدها، ومن يبغضها في هذا العالم يحفظها لحياةٍ أبديّة. كلام الإنجيليّ يوحنّا هذا يكشف لنا معنى المسيحيّة الأعمق، والسّلوك الّذي ينبغي على كلّ مؤمنٍ بيسوع المسيح أن يسلكه في حياته، لكي يبلغ الحياة الأبديّة. وهو يؤكّد أنّ المحبّة هي الأساس الّذي يبني الإنسان نفسه عليه. المحبّة الّتي يكشفها الإنجيليّ هي محبّةٌ تولد من رحم العطاء، وتتكوّن من ممارسة التخلّي والموت عن المادّة، عبر تحويل النّهم إلى السلطة، إلى تأدية واجب الخدمة، والشّراهة في الكبرياء، إلى تواضع التضحية بالذّات".

ولفت إلى "أننا نحتفل بعيد أبينا القديس مارون، شفيعنا وقدوتنا في اتباع المسيح. القديس "مارون الإلهي" كما سمّاه توادوريطس أسقف قورش، كاتب سيرة حياته، الّذي نقل إلينا ما جسّده هذا الرّاهب النّاسك الزّاهد بالدّنيا من كلام الله حتّى تلازمت سيرته وتعليم الإنجيل المقدّس، فغدى بدوره شهادةً إنجيليّة صادقة، ملتزمة، وصفحةً حيّةً منه. القديس مارون ترك لنا نهجًا مسيحيًّا حقيقيًّا، تحوّل عبر الأجيال إلى مدرسة قداسة وروحانيّة. من شهادته بدأت الكنيسة المارونيّة، فالشهادة الّتي أدّاها كانت استشهادًا يوميًّا في تحدّي الطبيعة، عائشًا في العراء في القفر في العزلة في الصّمت في اتحادٍ دائمٍ مع الله".

وأشار أبو طقة، إلى أنه "عندما نسمع هذه الشهادة في هذا الدّير المقدّس نشعر بحضور القديس مارون، يتواصل عبر التاريخ لنلمسه في شهادة تلاميذ مدرسته الّذين جسّدوا ما عاشه، بأمانةٍ كاملةٍ، فأكّدوا لنا مرّةً جديدة حقيقة نهج مارون الإلهيّ، الّذي أفضى بهم إلى الاتحاد بالله. القديسون شربل ورفقا ونعمة الله والطوباوي اسطفان هم شهودٌ لمار مارون، من خلالهم نلتقي بصورة أبينا ومؤسّسنا وشفيع كنيستنا وفي حضرتهم لا نقف عند أشخاصهم، وإنما نوجد في حضرة الله، الّذي ما برح حيّاً فيهم، وهم يعلنونه من خلال ما يجترحونه في العالم".

وتوجّه إلى أبناء "مارون الإلهي"، مشدّدًا على "أن مارون ليس حكرًا على الموارنة، إنّه قدوةً مسيحيّة، روحانيّته قامت على محبّة الصّليب، لقد مات مارون آلاف المرّات كلّ يومٍ وقد قاسى البرد والحر والجوع والعطش وقساوة الطبيعة في العراء، مسمّرًا إرادته وعقله وجسده في صليب المسيح عملاً بكلمة يوحنّا الانجيليّ: "من يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها لحياةٍ أبديّة".

وعن روحانيّة مار مارون، أكّد الأب المدبر أبو طقّة أنها "قامت على تحقيق كلام الربّ في حياته، فهو بإصغائه لكلام الربّ، لم يقف عند حدود السماع، بل جعل هذه الكلمة حقيقةً عاشها ومارسها فانطبعت في ملامحه حتّى غدى هو بدوره إنجيلًا حيًّا. كما قامت على الصلاة والعيش الدائم في حضرة الله، عاش عابدًا لا همّ له ولا مهمّة سوى مخاطبة الله، يسبّحه، يناجيه، يقدّسه ويسجد له، لا ملك له يهتمّ به، ولا مال يقلق على تكديسه والحفاظ عليه، ولا مكان يأوي إليه، لقد ماثل المعلّم الإلهي الّذي قال "للثعالب أوجرة ولطيور السّماء أوكارًا امّا ابن الانسان فلا مكان يسند إليه رأسه".

وشدد على أنّه "هدم مارون أصنام الضلال في ذاته وفي المعابد الوثنيّة، وحوّلها إلى كنائسٍ لعبادة الله بالرّوح والحق. روحانيّة مار مارون قامت على احترام الطبيعة والأرض. إنّ خياره العيش في العراء في الطبيعة مفترشًا الأرض ملتحفًا السّماء، هو أبهى صورة عن محبّته العميقة للأرض واحترامه لها، لأنها هيكل الله الخالق".

واعتبر أبو طقة، "أننا نتأمّل بهذه الحقائق الروحانيّة الّتي نستشفها من شخص القديس مارون الإلهيّ، نجدنا مدعوين إلى القيام بفحص ضمير، عمّا يربطنا نحن أبناءه به، وما نواصله من نهجه وما نحقّقه من روحانيّته؟!".

ورأى "أننا حوّلنا المارونيّة إلى مارونيّةٍ سياسيّة، إلى مارونيّةٍ أفرغت من حقائقها الأساسيّة. فالمارونيّة هي وتبقى كنيسةٌ تعكس حضور المسيح وفعله في العالم وهي أمّةٌ من المؤمنين بالإنجيل وبالخلاص الذي نرجوه ونعمل على بلوغه بواسطة الالتزام بعيش القيم الإنجيليّة الّتي مكّنت مارون وتلاميذه والآباء القديسين شربل ورفقا ونعمة الله والأخ اسطفان والعديد من أبناء كنيستنا من الوصول إلى الملكوت".

وأكّد أبو طقة، أنه "على كلّ مارونيّ لا بل وعلى كلّ مسيحيّ أن يتحلّى بهذه المميزات، فالمارونيّة ليست واقعًا اجتماعيّاً، إنّها دعوةٌ لعيش الحقيقة المطلقة أي الاتحاد بالله عبر محبّة القريب. من هنا، المارونيّة هي انفتاح على الجميع دون تمييز، وهي تتطلبّ من الجميع أيضًا أن يحترموها وينفتحوا عليها. ارتباط الموارنة بلبنان ليس ارتباطًا عابرًا، والكنيسة المارونيّة ليست بحاجة لشهادة أحدٍ للإقرار بدورها ودور الموارنة في قيام الكيان اللبنانيّ في الشراكة مع المكونات اللبنانيّة الشقيقة على تعدّدها، فنحن جميعنا أبناء وطنٍ واحدٍ يجسّد بالنسبة لنا القيم الأساسيّة من انفتاحٍ وحريّةٍ ومحبّة، وينبغي أن تتضافر جهود الجميع للحفاظ على هذا الوطن الرسالة".

وأعلن أنّ "دعوتنا إلى القادة السياسيين والعاملين في الشأن العام، للعودة إلى القيم الّتي من شأنها أن تحقّق حياة الوطن والمواطن وفق معايير الكرامة الإنسانيّة والتضامن الاجتماعي لمواجهة التحديات، وإعادة النظر في سلوكيّات كلّ الفرقاء لكي يعود لهذا الوطن وجهه الحقيقي، كوطن-رسالة".

ورفع الأب أبو طقّة الصلوات لأجل انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، "يحمي الوطن، لينتظم عمل المؤسسات الدستوريّة". وتوجه باسم الرئيس العام للرهبانيّة اللبنانيّة المارونية الأب العام هادي محفوظ، من الحضور ومن جميع الّذين يحملون اسم مارون العظيم بمعايدةٍ روحيّة.

وذكر "أننا نعايد الأب الرئيس الحبيب ليشع سرّوع الّذي يواصل في حياته وخدمته بأمانة نهج مارون. لكم منّا يا أبت العزيز كلّ الشكر والامتنان والفخر لما تشهدون به في هذه المنطقة العزيزة على قلب الرهبانيّة. ومعكم نشكر قيادة وضباط وافراد الجيش اللبناني على دعمه المتواصل لرسالة الرهبانيّة ولكل ابناء المنطقة بدون تمييز. أمام انهيار مؤسسات الدولة، يبقى الجيش اللبناني الأمل الوحيد في الحفاظ على ألأمن والاستقرار وعلى العيش المشترك الصادق التي تتميّز به هذه المنطقة".

وشدد على أنّه "من أجل أرواح ضحايا الزلزال الذي ضرب تركيّا وسوريا، ومن أجل المصابين والجرحى الذين نتمنى لهم الشفاء العاجل، ونوكل المتضررين من هذه الكارثة إلى عناية الله. كما نرفع الصلاة من أجل وطننا لبنان ليمنّ الله عليه بالأمان والسلام، راجين بشفاعة القديس مارون أن نكون شهودًا حقيقيين للمسيح ولإنجيله".

ودعا أبو طقة، إلى "الاقتداء بتعاليم القديس مار مارون والسير على هداه وخطاه"، مشيرا إلى "دور الرهبنة المارونية في إنهاض هذه المسيرة المسيحية"، وأشاد بـ"دور الجيش الذي قدم التضحيات على مذبح الوطن"، لافتا إلى أنه "الحامي من خلال حفاظه على مسيرة السلم الأهلي، في ظل الفراغ الذي تعيشه الدولة".

وحضر القداس ممثل قائد الجيش العماد جوزاف عون العقيد طوني منصور، قائد اللواء التاسع في الجيش العميد كمال نهرا، ممثل مديرية مخابرات الجيش العقيد ملحم حدشيتي، ممثلون لقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة وفاعليات سياسية واجتماعية ورهبان وكهنة ورعية من قرى البقاع الشمالي.