كان يُفترض ان تفك المصارف إضرابها، نهار امس الثلاثاء، نتيجة جهود بذلها رئيس حكومة تصريف الاعمال ​نجيب ميقاتي​، قبل نهاية الاسبوع الماضي. لكن ادّعاء النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية ​غادة عون​ على مصرف "سوسيتيه جنرال"، كاد ان يعطّل مساعي ميقاتي، بعدما اعتبرت المصارف ان الادعاء هو "كيدي"، في وقت وصف مطّلعون القرار بأنه ليس للنيل فقط من "رئيس مجلس ادارة المصرف انطوان الصحناوي فحسب، بسبب ادواره السياسية المعاكسة للتيار الوطني الحر، ولا فقط من الجسم المصرفي، او حاكم ​مصرف لبنان​، بل من الاستمرارية اللبنانية في الحكم والحكومة، من دون ​التيار الوطني الحر​".

لكن ميقاتي تصدّى شخصياً، وأصرّ على استكمال مهمته، فجاء كتابه الى وزارة الداخلية والبلديات للحدّ من فعالية القاضية عون، ومنع تنفيذ القوى الأمنية لقرارتها، مما يعطّل عملها، ويقضي على موقعها، وتصبح كل الدعاوى امامها وجهة نظر لا تجاوب فيها لا شعبياً ولا امنياً. وهذا ما فعله وزير الداخلية بسام المولوي "لمنع تجاوزات مدعي عام جبل لبنان للقوانين". فهل سيتخذّ أيُّ مدعى عليه من قبل القاضية غادة عون عنوان "عدم قانونية" خطواتها؟ يبدو الامر في هذا الاتجاه. فما الذي يجري؟

يتحدث سياسيون في مجالسهم عن أن القاضية عون "تنفّذ اجندة رئيس التيار الوطني الحر النائب ​جبران باسيل​ التعطيلية"، على حد وصفهم، ويعتبرون أن "عملها القضائي يتكامل مع خطوات احد قيادي التيار وهو محام ينفذ ذات الأجندة علناً"، رغم ان القاضية عون تستند الى مواد قانونية ووقائع في الادعاء. لكن منتقديها يرون انها "لا تريد العدالة، بقدر ما تصبو الى تحقيق الإنتقام من كل معارضي باسيل".

بالتأكيد إن هواها السياسي الذي يُظهره، على الأقل، التكامل مع محامي التيار الوطني الحر المُشار اليه، وتغريداتها، واطلالاتها، تضع الاتهامات التي تُساق ضدها على طاولة السؤال القضائي، إلى حد صار يستوجب تصرفاً من قبل مجلس القضاء الأعلى لإنصافها او محاسبتها.

الخشية هي أن يتظهّر الإنقسام القضائي في كل الملفات، فتُصاب المؤسسة القضائية بالتحلّل الكامل الذي تغرق فيه معظم مؤسسات الدولة اللبنانية. وهو ما بانت مؤشراته في أكثر من إتجاه.

واذا كان اللبنانيون يحمّلون مصرف لبنان المركزي ومعه المصارف في قضية "اختفاء الودائع المالية"، فإن حرق او اضراب المصارف لا يعود بالفائدة على اللبنانيين. ومن هنا تتحدث المعلومات عن توجّه معنيين لإتخاذ خطوات من اجل طرح ملف المحرضّين على حرق المصارف، ومحاسبتهم عبر توقيفهم قضائياً وتجريمهم ايضاً.

وبإنتظار ان يتحرك مجلس القضاء الاعلى، وتبت المصارف قرارها بالعودة الى العمل قريباً، يبقى السؤال: اذا صحّ ان القاضية عون هي احدى ادوات باسيل "التعطيلية"، فهل ان التيار الوطني الحر اصبح يلعب في مساحة التعطيل بكل اتجاهاته؟ من الصعب تأكيد ذاك الاتهام، ولا نفيه.

يُعرف عن باسيل دهاؤه السياسي وقدراته القيادية: هو وصل لتزعّم التيار بدعم من مؤسّسه رئيس الجمهورية السابق ​ميشال عون​، لكنه إستطاع ان يفرض نفسه زعيمًا سياسيًا منافساً لكل الزعماء الموارنة التقليديين والصاعدين. ويُستبعد ان يتصرف على انه لا يزال في السلطة، بعد خروج عون من بعبدا، وإبعاد نفسه حكومياً-سلطوياً، خصوصاً ان سنده الاساسي التقليدي منذ ١٧ عاماً، اي "​حزب الله​" لم يعد حليفه عملياً. مما يعني ان باسيل فقد قوتيه الاساسيتين: الحزب والسلطة.

لا ينفع خطاب المعارضة حالياً، بإعتبار ان المساحة الزمنية بعيدة عن موعد الانتخابات النيابية، ولا يفيد الخطاب التصعيدي، ولا تُتنج "الممارسات التعطيلية" بأي ثمار سياسية للتيار، سوى بمحاولة إقناع الآخرين بتلبية مطالبه السياسية التي اعتاد منذ شباط ٢٠٠٦ ان ينفذها "حزب الله" ويُجبر الآخرين بها، حكومياً وانتخابياً.

وعليه، لا يمكن ان يستمر باسيل في دفع "ادواته" لممارسة خطوات "الانتقام" السياسي. فهو لاعب ماهر سيعود الى امساك اللعبة قبل فوات الآوان، في ظل متغيرات داخلية واقليمية ودولية، يُصبح فيها جمع التحالفات الوطنية مصدر قوة لا عوامل ضعف.

لا يمكن ان يستمر باسيل في مواجهة القوى المسيحية الاخرى: القوات والمردة والكتائب، ولا انتقاد "الثنائي الشيعي" ومعارضة خطواته، ولا مشاكسة الزعيم السنّي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وشن حرب بكل الوسائل عليه. فرئيس الحكومة هو الرمز الاسلامي السنّي الأول الذي صار التصويب عليه تهجماً على موقعه ومن يمثّل.

لا حلفاء وازنون لباسيل في عزّ مشواره السياسي، وهو بحاجة الى تأمين توازنات اللعبة اللبنانية.

لذا، لا يبدو ان باسيل سيستمر بسلوك نهج سياسي يقوده الى "العزل الذاتي"، وهو يعرف ان "التعطيل" لن يجلب سوى مزيد من الاضرار السياسية للبلد ولفريقه ولإندفاعته الزعاماتية.