مُنذُ ديكارت، سَلَكَ الفِكرُ البَشَريُّ مَسارَ عَدَمِ إرتِضاءٍ سِوى أن يَكونَ الإنسانُ إلَهَ ذاتِهِ، الفاصِلَ وَحيداً بَينَ ما هو خَيرٌ وَما هو شَرٌّ، كَما في عَودَةٍ الى الخَطِيئَةِ الأصلِيَّةِ، بُلوغاً الى نيتشه وإعلانِهِ مَوتَ اللهِ. في ذُروَةِ هَذا التَصارُعِ مَعَ اللهِ، المُستَهدِفِ نَسفَ الجَوهَرِ الإلَهيِّ، غَرِقَ الإنسانُ في صِراعٍ مَعَ وجودِهِ وَجَوهَرِهِ، لأنَّ مَوتَ اللهِ قادَ الى مَوتِ الإنسانِ في ما هوَ كُلِّيَةُ الخَليقَةِ وَذُروَتُها.

وَفي الحَقِّ الحَقِّ، هيَ حُرِيَّةُ الإنسانِ المُنحَدِرَةُ إلَيهِ مِن اللهِ خالِقِهِ، التي نَسَفَها بآلِيَّةِ تَفكيرٍ عَمياءَ لا قَرارَ فيها.

في هَذا القَعرِ مِنَ الظُلمَةِ، يَلوحُ قَبَسٌ، راسِخٌ مِن فَوق: لبنانُ-القَلبُ-لبنانُ-العَقلٌ. قَلبُ اللهِ، على ما يَعني إسمُهُ، وَعَقلُ الإنسانِ على ما دَوَّنَ أوَّل مُفَكِّري الخَليقَةِ سَنخوني-أتُن البَيروتيَّ في كَشفِ أولى مَزاياهُ. في هَذا الإتِّحادِ بَينَ فِعلِ الجَوهَرِ (الحُبُّ) وَفِعلِ الوجودِ (الإرادَةُ) إنبِعاثُ الحُرِيَّةِ في أصالَتِها. أهيَ بُعدٌ مُطلَقيٌّ؟ بَل أعجوبِيَّةٌ تُوَلِّدُ مِن ذُهولِها وَعياً. وأكثَرُ، هيَ مُزدَوِجَةٌ: حُرِيَّةُ اللهِ، وَمِنها إنبِثاقُ أناهُ العُليا، أُقنومَهُ الثاني، إبنَهُ-اللوغوسَ. وَحُرِيَّةُ الإنسانِ وَمِنها إنبِثاقُ أناهُ الحَضارِيَّةُ، أُقنومَ حَصرِيَّتِهِ.

أجَل! في نَشأةِ لبنانَ مِنَ اللهِ وإلَيهِ، مِنَ الإنسانِ وإلَيهِ، ما هوَ أبعَدُ مِن إقرارٍ بِشَرعِيَّةِ حَقِّ اللهِ وَحَقِّ الإنسانِ: سيادَةِ الحُرِيَّةِ المُشتَرَكَةِ للهِ والإنسانِ، في إتِّحادٍ يَرقى الى ما فَوقَ الإحتِرامِ المُتَبادَلِ. لَقَد إحتَرَمَ اللهُ-الإبنُ المُتأنِّسُ حُرِيَّةَ الإنسانِ الى المُنتَهى، مَعَ أنَّهُ كانَ يَعلَمُ أنَّ حُرِيَّةَ الإنسانِ سَتوصِلَهُ الى المَوتِ عَلى الصَليبِ. لَكِن ما يَتِّمُ تَغافُلُهُ أو تَناسيهِ أنَّ حُرِيَّةَ يَهوذا-الإنسانِ، التي قادَتِ المَسيحَ-اللهَ الى المَوتِ... إنتَهَت بِقيادَتِهِ الى قَتلِ نَفسِهِ، يأساً مِنَ العَجزِ عَن إدراكِ جَوهَرِ اللهِ وَبُلوغِ وجودِهِ فيهِ: مِن مُبادَلَتِهِ الحُرِيَّةَ-الحَقَّ بِحُرِيَّةٍ-حَقٍّ.

لبنانُ-الديالِكتِيَّةُ

أفي تَجَلِّيَ لبنانَ هَذا واجِبٌ؟ اليَومَ، فيما الإنسانُ المُناقِضُ جَوهَرَ وجودِهِ مُنهارٌ، وَفيما لبنانُ يَدفَعُ ثَمَنَ يَهوَذِيَّةِ الإنسانِ الفاقِدِ سِماتَ الإنسانِيَّةِ، لبنانُ-الدَعوَةُ رِسالَةُ إرتِقاءٍ الى الخَليقَةِ... رَسالَةَ خَلاصِ الخَليقَةِ. هوَ الحُرِيَّةُ مِن أجلِ (في بُعدِهِ الَذي مِنَ اللهِ) والحُرِيَّةُ الأساسُ (في بُعدِهِ الَذي لِلإنسانِ).

في هَذِهِ الديالِكتِيَّةِ الُلبنانِيَّةِ: اللهُ-الإنسانُ، تُحفَظُ هوِيَّةُ اللهِ عَلى أنَّهُ اكثَرُ مِنَ الكُلِيَّةِ، وَتُحافَظَ هوِيَّةُ الإنسانِ عَلى أنَّه أكثَرُ مِن جَسَدانِيَّةٍ. أجَل! مِن تُرابِيَّةِ لبنانَ، سِترُ عُري الإنسانِ المُتَنَكِّرِ لِحَقيقَتِهِ والهارِبِ مِنها الى الهَشاشَةِ، وَكَشفُ صَلاحِ اللهِ في ما هوَ إشباعُ جوعِ الإنسانِيَّةِ الى الخَلاصِ مِن حَماقَةِ الزَوالِ، مِن حَقارَةِ المَوتِ.

وَمِن شُمولِيَّةِ هَذِهِ الديالِكتِيَّةِ، تُردَمُ الهُوَّةُ بَينَ اللهِ-الحُرِيَّةِ (التَحقيقُ) والإنسانِ-الحُرِيَّةِ (الإنتِظارُ)، وَيَظهَرُ جَلِيَّاً أنَّ حُرِيَّتَهُما مُتَّحِدَةٌ... حُرِيَّتُهُما واحِدَةٌ. حُرِيَّةُ شَراكَةٍ.

هوَذا لبنانُ، المُنطَلِقُ مِن إسمِهِ وَمَزِيَّتِهِ الأولى. لَقَد حَمَلَ اللهَ العاطِيَ إبنَهُ، القائِمَ مِنَ المَوتِ، الى الإنسانِيَّةِ، فَعَرَّفَها على أصلِها وَمآلِها. في فَيضِهِ هَذا، القائِمِ وَجهاً لِوَجهٍ، حُرِيَّةً إزاءَ حُرِيَّةٍ، غَمرٌ يُنقِذُ الفِكرَ البَشَريَّ مِن إنحِرافاتِهِ، وَيُعيدُ الَيهِ بَهاءَهُ مُذ تاهَ مَعَ ديكارت وَمَن بَعدَهُ.

قُلّ: في هَذِهِ الديالِكتِيَّةِ-الحَياةِ، المُتسامِيَةِ تَناغُماً، وَحدُهُ لبنانُ-القَصدُ قادِرٌ عَلى إعادَةِ إدخالِ الخَليقَةِ ‒وَقَد حَرَّرَها مِن إشكالِيَّاتِ عَبَثِيَّاتِها‒ في شَراكَةِ الجَوهَرِ والوجودِ مَعَ اللهِ ‒وقد حرَّرَها مِن أوجُهِ التناقُضِ والتَنابُذِ والتَلاغِيَ.

تِلكَ مُقاوَمَتُهُ-التَقدِمَةُ لِمَغفِرَةِ أصلِ الخَطايا!.