عندما تكونُ رؤيةُ الإنسانِ مُظلِمَة، يكونُ كلُّ شيءٍ عِندَه ظلامًا، لا سيَّما بصيرتُه. هناكَ مَن يستطيعُ أن يَنظرَ، لَكنّه عديمُ البصيرةِ والرؤية، اللَّتين هُما غير النَّظر.

البصيرةُ هي داخليّةٌ واستنارةٌ للّذهنِ، تُوَلّد لنا رؤيةً حَسَنة. فَبِقَدرِ ما يكون الذِّهنُ مستنيرًا، تكونُ الرؤيةُ صائبةً، والعَكس صحيح.

مِن هنا استحقَّ الشعبُ اليهوديّ قَديمًا توبيخَ الرّبِّ بلسانِ إِرمياء النبيّ: "اِسْمَعْ هذَا أَيُّهَا الشَّعْبُ الْجَاهِلُ وَالْعَدِيمُ الْفَهْمِ، الَّذِينَ لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ يُبْصِرُون[1]".

كان كلامُ الرَّبّ لليهودِ واضحًا للغاية. فَعِندَما تركوا الله وجَحَدوه وعَبدوا آلهةً غريبة، انعدَمَت بَصيرَتُهم. فالابتعاد عن الله، هو الابتعادُ عن النُّورِ والدُّخولُ في الظلام.

كَرَّرَ الرَّبُّ يسوعُ التوبيخَ نفسَه لليهود، عندما علَّمَهم مَثَلَ الزارع[2].

يُريدُنا الرَّبُّ أن نكونَ دائمًا في النُّور، لذلك لا يَنفَكُّ يزرعُ البِذارَ الجيّدة في نفوسِنا. كما أنَّه يريدُ أن يكونَ قَلبُنا مُستَنيرًا وأَرضُنا جَيّدَة مثَمَرةً نُنير بِها غَيرنا.

الرَّبُّ نورٌ، ولا مكانٌ للظلمَة عِندَه. لذلكَ قال لتلاميذه قَبلَ صَلبِه: "سِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظَّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ[3]".

للأَسف هَذا هوَ سقوطُ البشريّةِ الكبير حينَ تَخلَّت عنِ الرّبّ ونورِه. لذلكَ خصَّصت الكنيسةُ في الأحدِ الثاني مِن الصَوم الأربعينيّ المُقدّس للقدّيس غريغوريوس بالاماس[4]، الذي أبدعَ في كلامِه على النُّور الإلهيّ غيرِ المَخلوق، الذي يَنحدِرُ على مَن يجاهِدُ جِهادًا حسنًا، وتَتَنَقّى صلاته، فَيكتَسِبَ بالتالي الهدوئيّة Hesychasme.

حينئذٍ يعيشُ الإنسانُ بسلامٍ إلهيٍّ داخليٍّ ليسَ مِن هذا العالَم، ويتصالحُ مع ذاتِه، وتَخلو نَفسُه مِن الاضطرابات، وأفكارُه مِن التشويش، ويَتَّحدُ قلبُه وحواسُّه وعقلُه بعضُهم مع بَعض، فَتنتَظِمُ جميعُها باتِّجاهٍ واحِد، وتتّحدُ مع الرَّبِّ القدّوس. هَكذا يكونُ المرءُ قد تَنقّى واستَنارَ وَتَألَّهَ.

يشرحُ القدّيس بالاماس أنَّ هذا النورَ المُنحَدِرَ عَلينا، هو غيرُ منفَصِلٍ عن الله، وهُو قوّةٌ مِن القِوى الإِلهيّة غَير المخلوقَة énergies incrées.

هوَ نفسُه النُّورُ الذي انبعثَ مِن الرَّبِّ في حادثة التَجلّي، عندما أظهرَ طبيعتَه الإِلهيَّة لتلاميذه الثَلاثةِ الذينَ كانوا معهُ على قِمَّةِ جبلِ ثابور. وهوَ أيضًا النُّورُ الإِلهيُّ الذي عاينَه كلُّ مِن موسى النَبيُّ في العُلَّيقَةِ المشتعِلَةِ وَغيرِ المحتَرِقَة، والنَبِيُّ إيليّا في عَرَبةِ النار، وَبولسُ الرسولُ على طريقِ دِمَشق.

كذلكَ جيّدٌ أن نعرفَ أنَّ كلامَ القدّيسِ بالاماس أتى مُنيرًا، وقاطعًا باستقامَةٍ كلمةَ حقِّ الرّب، لأنّه نَبَعَ مِن ممارستِه الدؤوبَة للصلاةِ القَلبيّة: "يا ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخَاطِئ".

فكانَ مِثالًا للفضيلةِ، وَماقتًا للمَجد الباطل، وَمُحبًّا للتواضُع. كان يَعيشُ ما يقولُه. لذا طُبِّقَ عليهِ ما قالهُ الرّبّ: "وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ[5]". لذلكَ تَمَّ اختيارُهُ مِن قِبَل الرهبانِ ليُدافِعَ عن الهُدوئِيَّة في مواجهة مُحارِبيها.

مَن يعاينُ ما يَحدثُ في العالمِ اليوم مِن شُذوذٍ وانحرافاتٍ وضَياع، لا يستغربُ أبدًا. فالأمرُ ذاتُه يحصلُ في كلِّ العُصور: في عَصرِ القدّيس غريغوريوس، وفي عصرِنا اليوم، ويستَمرُّ حتّى اليومِ الأخير. فالصراعُ يَبقى كما هو.

مِن أهمِّ ثمارِ هذا النُّورِ الإِلهيّ مَوهبَةُ التَّمْيِيز، واكتشافُ الحقيقةِ الكاملَة، التي هي الرَّبُّ يسوعُ المسيح. فَلِكلِّ عَصرٍ حَسناتُه ومَزاياه، وَأيضًا أَمراضُه وعاهاتُه.

في عَصرنا الحَديث، يُهَيمنُ مرَضٌ كبيرٌ، وَهو السَطحيَّة، وعدمُ الغوصِ عميقًا «Prendre les choses à la légère–Être superficiel»، وَسهولةُ اقتبالِ ما هُو شائِعٌ ومتداوَلٌ به، تَماشيًا مع الغَير، كي لا يكون المرءُ مُغايِرًا ومُختَلِفًا في مُحيطِه، بل يتماشى مع الحالَةِ السائِدَة « La conformité».

عُذرًا، إنَّه قِمّةُ الجَهل. هذا المرضُ الفتّاكُ ليسَ جديدًا، ولكنّه سائِدٌ بِقوّةٍ اليوم. فهناكَ كثرةٌ مِن المفاهيم الإيمانيّةِ والاجتماعيّةِ تتعرَّض يوميًّا للّتشويه الذي يَنتشرُ بقوّةٍ بين شبابِنا. ويساعدُ على ذلك وسائلُ التواصلِ الاجتماعيّ.

إنَّ أهمَّ هذهِ المفاهيمِ الإيمانيّةِ التي تتَعرّضُ للتشويه هي: ألوهَةُ الرّبِّ يسوعَ المسيح، الصليب، القيامَةُ وغيرُها. ومِن المفاهيمِ الاجتماعيَّة: الزواج، العائلة، الأبُ، والأمُّ، الحريّة، وغيرُها.

يحضرُ أمامي هنا قولٌ للعالِمِ الفرنسيّ، وَعالِمِ الصورةِ المشهور De Auguste Lumière (ق١٩) مفادُه: "جرحُ البشريّةِ الأكبر، الامتثالُ “La grande plaie de l'humanité, c'est le conformisme.”.

هذهِ هيِ الظلمةُ بحدِّ ذاتِها، عُميانٌ يقودونَ عُميانًا، وجميعُهم يَقعونَ في الحُفرَة.

هذا الامتثالُ لا ينحصرُ في المفاهيمِ أعلاه فقط، بل يشتملُ أيضًا على السلوكِ وأنماطِ الحياة. فكثيرونَ يَتبعونَ مَسلَكًا مُعَيَّنًا بسببِ أنّه الأقوى والغالبُ والمُسيطرُ Dominant، بغضِّ النظر عن ما إذا كانت نتائِجُهُ بنّاءَةً أو هَدّامَة.

هنا يأتي دَورُ النُّورِ الإِلهيّ بالتَحديد. فَإمّا أن نقبَلَه فَنَستنير، ونُضيءَ دربَنا، ونسلكَ الطريقَ الصحيحَ والمستقيم، الذي هوَ الرّبُّ يسوع كما قال لنا: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ[6]"، أو أن نرفُضَه، فنقعَ في التَيهانِ والظُلُمات.

مِمّا لا شك فيه أيضًا، أنَّ اتّباعَ النُّور مُكلِفٌ جِدًّا، ندفَع ثمنَه غاليًا، يصل بنا أحيانًا إلى حدِّ الاستشهاد، شهادةً حمراءَ كانت، أي شهادةِ الدَم، أو بيضاءَ، أي نِكرانِ الذات. ولكنّهُ في المقابلِ يحملُ لنا تعزيَةً كبيرة، وعطفًا وحنانًا من لدنِ الله.

عَودةً إلى القدّيس غريغوريوس بالاماس. لقد كان أبًا عقائديًّا بامتياز. تركَ لنا مؤلّفاتٍ لاهوتيّةٍ ودِفاعيّةٍ كبيرة عن الهُدوئيّة، مُشَدّدًا فيها على الوحدَة العميقَة القائِمَة بين العَقيدَة والحَياة، أي عَيش العقيدَة أفعالًا وسلوكًا.

كذلك شكّلت كتاباتُهُ امتدادًا لما هو مُعاشٌ في الكنيسة منذُ البَدء. واستكمالًا لجِهادِ القدّيسين الذين تَألّهوا بهذهِ القِوى الإِلهيّةِ التي شرَحَها غريغوريوس، والتي تَستمرُّ بالروحِ القُدُس. نجد لها مثالًا عند القدّيسين سيرافيم ساروفسكي، ويوحنا كرونشتادت، ونكتاريوس العجائبي، وبورفيريوس الرائي وغيرهم.

خلاصة، ما أعظمَ ربّنا الذي أعطانا هذهِ النعمَة الإلهيّة: أن نمتلئَ مِن الروحِ القدس، ونستنيرَ ونتألَّه، فيما نحن لم نزل في الجسدِ الترابي. مجدٌ ما بعده مجد.

يبقى التحدّي الأكبر أمامنا، أن نكونَ واحدًا، بالإيمان والأفعال، فيثبتَ قلبُنا بالنعمَة الإِلهيّة.

خِتامًا، فلنجعلْ صرخَةَ القدّيسِ غريغوريوس بالاماس: "أَنِرْ يا ربُّ ظُلمتي! أَنِرْ ظُلمَتي!"، صَرختُنا.

إلى الرَّب نطلب.

[1]. إرميا ٢١:٥

[2]. متى ١٣:١٣

[3]. يوحنا ٣٥:١٢

[4]. 1296 – 1359

[5]. متّى ١٩:٥

[6]. يوحنا ٦:١٤