لَيسَ لبنانُ بِرُكامِ ظاهِراتٍ. هَذِهِ صياغَةٌ لِأوطانٍ بائِدَةٍ، لَم يَكُن مِن مَصيرٍ لِلاوَعيها إلَّا بِهَكَذا حَيِّزٍ. أمَّا هوَ فَثَورَةٌ مِن فَوقٍ، إذ خَلَقَهُ اللهُ وَهوَ يَعقِلُهُ، وَقَد كانَ قَبلاً فيهِ فِكرَةً، وَكُلُّ ما هوَ إنعِكاسٌ لِما هوَ ماثِلٌ في اللهِ.

أطُموحُهُ الحِكمَةُ؟ بَل أبعَدُ مِنها: الحُرِيَّةُ الَتي مِن دونِها لا طُموحَ لِلحِكمَةِ في المَنطِقِ. قُلّ: هَذِهِ هويَّتُهُ. وإذا ما تَعَمَّقتَ في فَلسَفَةِ يَقينِهِ المُنَزَّهِ عَنِ الأُفولِ، لَإستَذكَرتَ قَولَ الفَيلَسوفِ الإيطاليِّ جان-باتيستا فيكو، المُتَوفيَّ في العامِ 1744: "Vorumquia factum"، وَمِعناهُ: "لا نَستَطيعُ أن نَعرِفَ إلَّا ما صَنَعناهُ"، والمَقصودُ بِهِ، تَطبيقاً، أنَّكَ تَعرِفُ لبنانَ... إن كُنتَ تَعرِفُ ثَباتَ سَبَبِهِ. مِن هَذِهِ المُسَلِّمَةِ، أنتَ تَرتَفِعُ الى هُوِيَّةٍ لا مَثيلَ لَها، وَلا بَديلَ، لأَنَّ مِن عَهدِها تُبنى الحَياةُ الَتي تَتَعَهَّدُ الكَينونَةَ.

مِن هَذا الدافِعِ-الثَورَةِ تَنبَعُ الثَورَةُ-لبنانَ، الَتي مِن إنشِغافِها بالرَجاءِ يولَدُ تاريخٌ مِن بُطولَةٍ لا مِن شُذوذِ تَسَلُّطٍ. مِن هُنا إرتِباطُها بالحاضِرِ والمُستَقبَلِ: بإبتِكارِ مواصَلَةِ الخَلقِ مَعَ اللهِ. إذ ذاكَ، تَبلُغُ مَدارِكَ أنَّ لبنانَ-التاريخَ، مُذ كانَ، إنَّما هوَ مَوثوقُ الواقِعِ وَمَختومُ التَفسيرِ. والدَليلُ أنَّ إمبراطورِيَّاتِ فَوائِضَ القُوَّةِ وَصَنائِعَ الواقِعِ، وَقَد نَصَّبَتِ ذَواتَها حارِسَةً على أقدارِ عَوالِمَ، نَشأتِ وإستَعلَتِ... لَكِنَّها إنتَهَت رُكاماً تُداسُ. أمَّا هوَ، لبنانُ، فَكانَ إسماً وَفِعلاً وَمَنهَجاً وَبَقيَ مَنهَجاً وَفِعلاً وإسماً. في هَذا الدَركِ الأَعلى تاريخيَّانَتُهُ، وَمِنهُ الأحيائِيَّةُ الَتي نَشَرَها قيَمَ تَحقيقٍ مُلِحَّةٍ، مُرتَبِطَةٍ بِبَعضِها البَعضِ، أوَّلُ مَن إعتَرَفَ بِها ذاكَ الجَلجامِشَ الَذي مِن فَجرِ التاريخِ أتَى الى أرزِهِ باحِثاً عَن "نَبتَةِ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ".

وَمِن حينِها، أيّ مِن بَدايَةِ البَدءِ، وَبابُ الإيمانِ أفتُتِحَ عَلى مَصراعَيهِ لِلتَجَذُّرِ في أرضٍ هي مِن ضَؤِ دينامِيَّةِ جَهرٍ. وَحدُها تُقصي أيَّ إلغائِيَّةٍ لِلمِعنى في الصَنائِعَ، وَتَتَغَلَّبُ عَلى العَتمَةِ التي في الفَوائِضَ.

مُعادَلَةُ الثَباتِ-الفَهمِ

فَلنَعُدِ الآنَ الى الثَباتِ: ثَباتِ لبنانَ والثَباتِ في لبنانَ، فَنُدرِكَ أَنَّ مِعناهُ الأعلى هوَ صَلابَةُ الحَقيقَةِ، والوثوقُ بالإِتِّكالِ عَلَيهِ، في آنٍ. إذ ذاكَ، يَنجليَ أنَّ الإيمانَ بِلبنانَ-الهوِيَّةِ إنَّما هوَ الإلتِصاقُ بِها، أيّ التَوَطُّدُ في ثِقَةٍأساسُها مؤَلَّفٌ مِنَ اللهِ... وإلَيهِ.

هوَذا لبنانُ الحَقيقَةُ والطَريقُ والحَياةُ. وَهَذا لَيسَ مُجَرَّدَ مَوقِفٍ ميتافيزيقيٍّ يَتيهُ بِسَطحِيَّةٍ روحِيَّةٍ. مَن بَلَغَ مَدارِكَهُ الَيومَ، خُصومُ هوِيَّتِهِ-الجَوهَرَ. وَهُم لَيسوا بِخَوارِجَ فَحَسبٍ، بَل مِن داخِلٍ: طُغمَةُ مُتَسَلِّطينَ عَلى مُقَدِّراتِهِ، تَناسَلَت وإِستَقوَت وَتَلاقَت عَلى الدَركِ المافيَوِيِّ الفاغِرِ، نَسَفَت بِدايَةً الإيمانَ بِهِ كَعَمَلِ مَعرِفَةٍ يَقومُ عَلى إتِّخاذِ مَوقِفٍ حَيالَ الوجودِ بِرُمَّتِهِ، ثُمَّ أغرَقَتهُ في لُجَّةِ إفقادِهِ مِعناهُ الَذي يَحمِلُ وجودَهُ وَوجودَ العالَمِ، هُناكَ حَيثُ اليأسُ هوَ يُسرُ الإرهاقِ، وَتَجهَدُ في إستِبدالِ هَوِيَّتِهِ، صَخرَةُ جَذرِ كُلِّ شَيءٍ والكافِلَةُ وجودَ اللامَنظورِ بالمَنظورِ وإتِّحادِهِما، بالإستِسلامِ الى الإِخضاعِ لِلعَدَمِيَّةِ والخُضوعِ لِلتَسَلُّطِ عَلى الواقِعِ. بِكَلِمَةٍ: هيَ طُغمَةٌ مُستَقوِيَةٌ بإستِنباطاتِ مَكرِ التاريخِ، تُفَعِلُّها لِجَعلِ المَوجودِ في ذاتِهِ لامَوجوداً.

أَفي تِلكَ الحَماقاتِ نِهايَةَ لبنانَ؟ لَكَأن تُقاوِمَ تِلكَ البَلاهاتِ، بإستِدعاءِ بَيِّناتِ وِحدَةِ الإيمانِ-الفِعلِ في مُعادَلَةِ الثَباتِ-الفَهمِ.

أنا مُجاهَرَتي في أِشكالِ "formgeschichte"، أيّ في ثّوابِتَ جَوهَرِ لبنانيَ. في حُرِيَّةِ إنضِوائيَ في خِدمَةِ لبنانَ-الكُلِّ-المُطلَقِ، الَذي يَعيَ ذاتَهُ، والحاضِرِ لِذاتِهِ. فأنا مِنهُ وَلَهُ... وَبِهِ، إندِحارُ ظَلامِيَّاتِ خُصومِهِ.