ترك موسى قصورَ الفرعونِ تبكي ملوكَها العبيد شعبُهُ غارقٌ في الطين، من ترابِ الأرضِ جزءٌ هُوَ، مِنْ نُتَفِ الأشياءِ. مثلمَا القطعانُ يمشي، والعصَا من فوق معدنٌ للكسرِ للاهمال.

جفَّت العروقُ في اجسادِهم قضبانَ خريفْ. سُرجٌ دونَ فتيل. حطبٌ للحرقِ لا يؤذي، ولا حتى دخانْ.

تركَ موسى قصورَ الفرعون تبكي ملوكَها العبيدْ جاء يُحيي هذهِ العظامَ، جفَّتْ منذُ آلافِ السنين.

حولَها تحَيا قشورٌ لونُها لون التراب. لها جرحٌ يشبهُ الثغرَ، الشفاهَ، ألِفَتْ طعمَ التراب. هذه الاسمالُ قالوا هي شعبُ الله. موسى، يا دعوةَ الرجالىيا مشتهى الأجيالِ في زمنِ العبودية يا وِقفةَ السيفِ في وجهِ مماليكِ الذلِّ والهوان.

ان كان اليأسُ يصيبُ بعضَ الناسِ فيموتونَ في آنيّتهم المخيفةِ، فهو بعيدٌ كلَّ البعدِ عمَّنْ يرونَ الحياةَ مسيرةَ عملٍ فيها الفشلُ والنَّجاحُ والوقوعُ والقيامةُ؛ بعيدٌ عن كلّ من يهدِفُ الوصولَ الى المطلقِ وفي نفسهِ دفعٌ يحملُهُ الى هناك، فكيفَ اذا كانَ هذا الهادفُ هوَ اللهُ، يعرفُ مستورَ الامورِ وخباياها ويعرفَ ضمائِرَ ما صنَعتْ يدَاه.

حين بادَرَ اللهُ بالخلقِ لم يكُنْ الخلقُ مقطوعاً منفصلاً عن مشروعِ الله المتكامل. وما يريدُهُ الله لا بدَّ حاصلٌ، ولا يستطيعُ الانسان مهما عنَّدَ بوجهِ اللهِ، أن يُغيِّرَ النتيجةَ التي في بالِ الله؛ لذا تراهُ دائمًا قادرًا على ايجادِ واحدٍ من الناس، مهما قسى الزمانُ ومحلَ الرجالُ، معهُ يوقظُ الشعبَ كلَّهُ وان ضلَّ بعيدًا عن الطريق، فيردّهُ الى حيثُ يجب ان يكون، ليصلَ الى حيثُ شاءت العنايةُ أن يصِل .

موسى واحدٌ من هؤلاء الرجال، الذين يجسِّدون ، من جملة ما يجسّدون، رجاء الله بالانسان ورجاء الانسان بالله.

عبَّر اللهُ لشعبِه بموسى، انّهُ الهٌ محبٌّ، والمحبةُ تُبعدُ النسيانَ وإن كانت لا تلزمُ. فالمحبُّ يبدأ دائمًا بالخطوةِ الاولى لأنّه يذكُرُ من يُحِبُّه ولا يُسقِطُهُ من تدبيرِه، فكيفَ اذا كان هذا المحبوب وحده صاحبَ الميراثِ وحامِل صورةِ الله.

مع موسى عرفَ الشعبُ قيمةَ المستقبلِ، فاستطاعَ ولو بجُهْدٍ وتملْمُلِ ان يعيشَ الواقعَ المرَّ موعودًا بحلاوةِ الغدِ، عرفَ أنَّ كلَّ واقعٍ يُصنعُ دون تحديدِ مسارِه المستقبلي، واقع محكوم بالآنيّة والفشل.

اوليسَ واحدٌ من ابعادِ الانسانِ، ان لم يكنْ اولَ ابعاده واهمَّها، انهُ يعيشُ الحاضرَ ويعرفُ أنَّ لهُ الغدَ. قيمةُ المستقبلِ أنَّهُ يؤهلُ الانسانَ لفعلِ أعمالِه اليومَ، حالمًا بأن تكونَ على مُستوى البقاءِ، وإلا غلبَتِ الآنيَّة عليه واصبحَ الانسانُ كسائِر المخلوقاتِ لا ذاكِرَةَ لهُ ولا مستقبل .

مع موسى في خروجِهِ بشعبِهِ من مِصرَ، عمليَّةُ خلقٍ جديدٍ مختلفٍ، يفجّرُ جدرانَ الواقعِ وسدودَه ليجعلَ من الانسانِ قدرةَ خلقٍ ومشاركةَ خالقٍ . معهُ يكونُ الحاضِرُ وعيًا للمستقبلِ وتحضيرًا له.

تصوّرُ واقعِ الامورِ على ضوءِ مستقبلِها البعيدِ، يشرحُ قيمةَ الوعدِ الذي اعطاهُ اللهُ لآدم وجدّدهُ مع نوح وابراهيم، وبدآ تحقيقهُ مع موسى. وعدُ اللهِ هو معالجَةُ الواقعِ الاليمِ على ضوءِ المستقبلِ الموعودِ الزاهر. متى فهمَ الانسانُ هذا الوعدَ، خلقَ في نفسِهِ توثبًا دائمًا نحوَ الافضلِ، نحو الغدِ الذي فيه كلّ سعادةٍ واملٍ ؛ متى عرفَ الانسانُ انّهُ ابنُ الغدِ رفضَ ان يبقَى اسيرَ الامسِ او الحاضرِ، رفضَ ان يبقى كما هو .

عمليَّةُ العبورِ من ارضِ العبوديَّةِ الى صحراءِ التنقية، فأرضِ الموعد، جعلَتْ فعلَ الخلقِ لا حدَثًا قد تمَّ في الماضي وانتهى، انَّما فعلٌ حاضرٌ، لا بل عملٌ مستقبليّ، بدأ بالحاضرِ. معهُ بدا الخلقُ وكأنّهُ مشروعٌ يتكاملُ يومًا بعدَ يومِ، به يُظهِرُ اللهُ للناسِ مدى حبِّه وثباتِهِ على وعدِه.

هذا الخلقُ التصاعديّ المتطردُ، يصلُ بنا، كما وصلَ ببعضِ الانبياءِ الى تصُّورِ الجنَّةِ لا فردوسًا مفقودًا فحسبُ، انما فردوسٌ موعودٌ آتٍ في آخر الزمان، حيث يتمُّ اللهُ فعلَ الخلقِ ويتوِّجُهُ بالسعادةِ.

نقفُ ايُّها الاخوةُ مع موسَى في عبُوره ونتأمَّلُ، كمْ من صعوبَةٍ، اعترضتْ مسيرتَهُ لتحريرِ شعبِه، فذلّلت لأنّ الله كان معهُ. ضربَ ملوكَ مصرَ الظالمين، انارَ طريقهُ في ظلام الصحراءِ وظللَّ رأسَهُ بالغيمةِ وسكنَ مع شعبه في الخباءِ، وسقاهُ من صخرةِ تجولُ وترافقه. لماذا كلّ هذا؟ لنفهَم ان القصدَ الثابتَ وحدهُ في الامورِ المصيريّةِ الخطيرةِ، قادرٌ على تخطِّي كلّ الصعوبات وتذليل كلّ العقبات .

لم يكُنِ الفرعونُ وحدَهُ عدوّ موسى، فمِنْ بعدِ اجتياز البحر اصبحَ الفرعونَ بعيدًا، انّما هناكَ فرخُ فرعونٍ ينمو في قلب ِ كلّ متخاذلٍ يخشى المغامرةَ من اجلِ التحرُّر. لذا قامَ الشعبُ على موسى وحنَّتْ نفسُهم للعبودة ؛ همُّهم ان يشبعوا من بَصَلِ المصريينَ لا أنّ يموتُوا في الصحراءِ ولوَ كانُوا احرارًا.

كثُرْ هُم الناسُ اليوم الذين يرضَون بعيشِ الذّلِ شرطَ الا يموتُوا جوعًا وقتلاً. يبيعونَ الحريّةَ بلقمةِ العيشِ كما باعَ عيسو حقوقَ البكوريةِ بصحنِ من العدس. كثيرونُ يقاومون القائدَ المستنيرَ لأنّهم لا يروَن ما يراهُ ويخشونَ ما لا يخشاه. هؤلاءِ هَمُ الذينَ غلبَ بطنُهم عقلَهُم وقلبَهُم، فارتهنوا للغريبِ ولو كانَ الشيطانَ.

هُنا يعلِّمنا موسى حكمةَ القائد حينَ اصرَّ على التحرُّر والتحرير، رافضًا كلَّ عروضِ الاستسلامِ والعودةِ الى ارضِ العبوديّة، وباصراره أنقذَ شعبَهُ وان طال الزمنُ. واحدةً على القائدِ ان يلتزِمَها في اصرارِه، هيَ وحدَتُه مع الله، ليعمل كلّ ما يعملُهُ واللهُ في قلبه، لأنّه حيث ُ يكونُ اللهُ تزولُ الاطماعُ ويسقطُ الخداعُ وتنمو الجرأةُ وتسيطرُ المحبّةُ.

اربعونَ سنةً يقول الكتابُ، ظلّ موسى مع الشعبِ في الصحراءِ قبلَ ان يدخلهم يشوعُ ارض الموعد. لماذا هذه السنواتُ الاربعون؟ لعلّ في الاربعين علاماتٌ شاءها كاتبُ الكتاب ان تصلَ الى قارئه. لعلها الحدّ الفاصِلُ بين زمانٍ وزمانٍ ، كالاربعينَ بين المرضِ والصّحة والاربعين في عُمرِ الطفلِ الرضيعِ والاربعينَ في الصلاة للموتى، والاربعينَ التي صامَها المسيحُ. اجل للاربعين في عبورِ الصحراءِ علامةٌ شاءَها اللهُ ونفَّذها موسى، إرادتُهما ألاّ يدخُلَ ارضَ الحريّة واحدٌ من اولئكَ الذينَ ألِفُوا عيشَ الذلِ والهوانِ في طينِ المصريين، ولا أنْ يحُكمَ ، مَنْ تعودتْ نفسُه ان تكونَ محكومةً من سواه، لانَّ الحاكِمَ الذي ارادَه موسى لشعب الله هو من مواليدِ هذه الصحراء وُلِدَ حرًا وعاشَ ، ومن كان كذا لا يمكنهُ ان يبيعَ بلادهُ وشعبهُ ليصبحَ معهُم عبدًا مرذولاً.

هكذا ارادَ اللهُ القائدَ ان يكونَ، غيرَ مرتهن لإرادة محتلٍّ ولا مرتهنٍ لمالِ محتلٍّ ولا لتدبير محتل. تمامًا مثل يشوع بن نون الذي اُوكِلَت اليه القيادةُ لدخولِ ارض الموعد. يشوعُ هذا لم يذُقْ بصلَ المصريين ليشبعَ بطنَهُ ولا عركَ طينَهم بقدميهِ ليبنوا قصورهُم واسوارَهُم، ولا خضعَ لحاكِمِ منهم ولا والٍ، ولا قصد صالوناتهم الفخمة ليسترشد بآرائهم الهدّامة.

هذا هو القائدُ الذي يريدُهُ اللهُ ويرسلُه لشعب، ان شاء اللهُ تحريرَ هذا الشعبِ من كلّ قيودِ الساسةِ الكذبة. ان كانت هذه سياسةُ اللهِ في تدبيرِ شعبه، علينا ان نقيسَ عليها حُكّامنا اليوم، لنعرفَ إن كانُوا أهلاً لقيادة شعبنا الى مرسى الامان، ام كانوا حكّام سوءٍ يجرّونَ الاحرارَ الى قيودِ الهوان. كلّ قائدٍ اليوم، رهنَ نفسَهُ لمال غريبٍ او حاكمٍ غريب او سفيرٍ غريبٍ او وزيرٍ غريبٍ او سيّد غريب، هو قائدٌ فاشلٌ حكماً، يزوّرُ التاريخ وسلطانُهُ زورٌ لم يأخذه من فوق ، لم يأخذه، من عندِ الله.

هذا هو القائدُ السيّدُ الذي على يدهِ يتمُّ التحريرُ، ومعهُ يجبُ ان تتم المصالحةُ، لانّه لا يطلبُ لنفسهِ انما لشعبه يطلُب، ولا تضعفُ نفسه امام المغريات لانّه لم يتعوّدها، قائدٌ حرٌّ يعرفُ انَّ السجينَ المغلوبَ، مربوطُ الايدي معقودُ اللسانِ ، وانَّ المرتهَنَ الضعيفَ يخشى التحرُّرَ والانطلاقَ لانّهُ اعجزُ من ان يكسرَ القيدَ ويُبعدَ عنهُ سيفَ التسلّط، لذا عليه هوَ ان يحلّ محلّ الضعيف ليقويّهُ ومحلّ المرتهن ليحرّره. عليه ألَّا يخشى تماماً مثل موسى، ثورة شعبه الجاهل المسكين، بل يسعى حامِلاً الكلّ معهُ الى ارض الموعد، ارضِ الحريّة. ومتى وصل بهم فهمُوا قصدَهُ وسارُوا نحوَ مقاصدِه، وتصالح الكلُّ.