عندما نَبلغ الأحدَ الثّالث مِن الصوم الأربعينيّ، الفترةَ الثّانية مِن زمن التريودي، نلتقي بالصليب المقدّس الذي عليه قدّمَ ربُّنا يسوع المسيح ذاتَه فِداء عنّا.

يُزَيَّح في هذا الأحد الصليبُ في الكنيسة وسطَ الرياحين، فيما نردِّد: "يا رب ارحم" إلى ما لا نهاية. نطلب رحمةَ الرّبِّ الكبيرة، لأنّ محبّتَه الباذلة لا تُقاس ولا تُحدّ، معترفين أن خطايانا لا تُحصى ولا تُعَد.

رتّبت الكنيسةُ أن يكونَ أحدُ السجود للصليب المقدّس وسطَ الصَوم تمامًا، لنَعي أنَّ الصليبَ هو دائمًا وسط حياتنا وجهادنا. فهذا الأحد يجمعُ مِن جهةٍ أولى، الأحدَ الأوّلَ والثّاني المختصَّين بالإيمان والعقيدَة، أي أحد استقامةِ الرأي وأحد القدّيس غريغوريوس بالاماس، ومِن جهة أخرى، الأحدَ الرابعَ والخامِسَ المَعنِيَّين بالتَّوْبة والجهاد الروحي، أي أحد القدّيس يوحنّا السلّميّ وأحد القدّيسة مريم المصريّة. وذلك لأنَّ الإيمانَ المستقيمَ والعقيدةَ يُعاشان بتَوبةٍ حقيقيّة مستمرّة، وبجهادِ تنقيةٍ للّذاتِ يَستمرُّ حتّى الرَمَقِ الأخير مِن حياتنا.

كذلك، ولا يتفاجأن أحد، فحياة المسيحيّ الحقيقيّ هي "صليب". نعم "صليب"، ولكنَّها "صليبٌ قياميٌّ"، لأنَّ الصليبَ في المعنى المسيحيّ يؤول إلى القيامة المجيدة. لهذا نرتّل في الأحد الثالث: "لصليبك يا سيِّدَنا نسجّد، ولقيامتك المقدَّسة نمجّد".

فهذا الزواج المقدّس الأبديّ، "الصليب-القيامة"، هو عقيدةٌ جوهريّةٌ في صُلبِ إيمانِنا المسيّحيّ المستقيم، المعاش صلاةً وحياة. فنحن لا نُرتِّلُه ترتيلًا ليتورجيًّا فَحسب، بل هو قائم في الكتاباتٍ الآبائيّة، وفي الفن الكنسيّ والإيقونوغرافيّ.

هذا تحديدًا ما نراه في هذه الأيقونة النورانيّة الرائعة، فهي تضع أمامنا أربعة مشاهدَ مِن التدبير الخلاصيّ الذي تممَّه خالقُنا مِن أجل خلاصنا. وفي الوسط يَقومُ صليبُ الرّبِّ المُقدَّس.

قبل البدء بشرح ما تُظهرهُ لنا هذه "النافذة الملكوتيّة"، أي "الأيقونة"، لا بُدَّ لنا أن نُذَكّرَ دائمًا أنَّ مِن خصائص الأيقونة أنّها إنجيلٌ مُصَوَّر، تساعد المؤمنَ على الصلاة والتأمّلِ في ما تممَّه الرّب مِن أجلنا.

نشاهدُ في القسم العُلويّ، مِن يميننا إلى يسارنا، مشهدَيّ الميلادِ والبِشارة. وفي القِسم السُفليّ منها، مشهدَي العنصرَة والقيامة. وفي الوسط الصليب المقدّس.

المشاهد الأربعة تدبيرٌ خلاصيٌّ واحِدٌ. وإذا قَرأناها على شكل X، مرورًا بالصليب، لوجدنا المقصد اللاهوتي المنشود.

حدثُ الميلادِ مرتَبط بحدثِ القيامة المجيدةِ مُرورًا بالصليب. ففي عيدِ الميلادِ المجيد، الذي هو عيدُ ظهورِ الله في الجسد، نُرتّل: "اليوم يولَدُ من البتول" على لَحنِ "اليوم عُلِّق على خشبة".

تُعلِّمُنا الليتورجيّةُ أنَّ الذي وُلِدَ هو المُخلِّصُ الفادي. كذلك الأقمطةُ التي نراها في الميلاد، نجدها في القبر فارغة بعد قيامة المسيح مِن بين الأموات. هذا ما تُظهره أيقونةُ القبر الفارغ.

فمنذُ اللحظةِ الأولى لميلادِ المسيح، تُخبرنا الكنيسةُ أنَّ مخلّصَنا أصبحَ في وسطنا، كما قال الملاك للرعاة: "وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ"(لوقا ١١:٢).

كذلك حدَث بشارة الملاكِ جبرائيل لوالدة الإله بالحبل الإلهيّ، مرتَبطٌ بحدَثِ العنصرة المجيدة. فالروح القدس الذي حلّ على والدة الإله[1]، هو نفسُه الذي حلّ على التلاميذ. والحدثان يمرّان أيضًا بالصليب المقدّس في الوسط.

عاشت والدة الإله الصليبَ منذ اللحظة الأولى لبشارتها. لا ننسى ما قاله سمعان الشيخ لها: "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ" (لوقا ٣٥:٢). هذا السيف هو الصليب. كذلك تَعرَّض التلاميذُ في بشارتِهم للاضطهادِ والتَنكيل والصَلبِ والاستشهاد.

وهكذا نحن، فقد أخذنا الروحَ القدس نفسَه في المعموديّة، وما علينا إلّا أن نُفَعِلَّهُ بالعيش بموجبه. ومَن يُجاهدُ بِصِدقٍ ليعيشَ الإنجيل، لا بُدَّ أن يَمرَّ بالصليب لا محالة. ولكنّه أيضًا يعيشُ فرحَ القيامة المجيدة، لأنَّ صليبَ الرّبِّ هو تعزيةٌ وفرحٌ وخلاص. هذا ما قاله الربُّ لنا: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي." (لوقا ٢٣:٩).

فنكرانُ الذات هو كَسْرٌ للكبرياء واكتسابٌ للتواضع، ولا طريق آخر نتبعُ فيه الربَّ يسوع الذي أوصانا قائلًا: "اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ"(متى٢٩:١١).

هذا ما كانت عليه والدةُ الإله، وهذا هو سرُّ قداستِها! لهذا أَنشَدَت: "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ"(لوقا ٤٦:١-٤٨).

بالإضافة إلى ذلك، كانت مريمُ تُصغي إلى كلمَةِ الله وتَعملُ بها. والتلاميذُ القدّيسون اتبّعوا النهج ذاته. هذا هو الطريق المستقيم، ودعوة الله لنا.

نشاهد أيضًا الإنجيليّين الأربعة مُمَثَّلين بالرموز كالتالي: في الأعلى نجدُ يوحنّا الحبيب بصورة النسرِ لأنّه حَلّقَ في اللاهوت كالنسر، إذ إنَّه كتب عن ألوهيّة كلمةِ الله بإسهاب وعمقٍ كبيرَين. وفي الأسفل هناكَ لوقا الرسول بصورة الثَور، لأنّه بدأ كتابة إنجيلهِ مُخبِرًا عن الشيخ زكريا الذي قدَّم ذبيحةً عن الشعب رمزً إلى كهنوت المسيح وفدائه.

يظهرُ عن يميننا مرقسُ الرسول كأسدٍ، لأنّه بدأ إنجيله بصراخ القدّيس يوحنّا المَعمدانِ الذي يزأر كالأسد كارِزًا: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً." (مرقس ٣:١). ونجدُ عن يسارنا متّى الرسول كملاك، لأنّه قدّم يسوعَ كمرافِق للإنسان وصديقه.

نَجدُ مصادرَ هذه الرموز في سِفرِ حِزقيال النبيّ (الإصحاح الأوّل)، وفي سِفرِ الرؤيا (رؤيا ٨:٤). وقد استشهد بها القدّيس إيريناوس أسقف ليون (١١٥-٢٠٢م) ليشير إلى الإنجيليّين الأربعة.

عودة إلى الصليب، إنَّ الذي يعزّينا في مسيرةِ حياتِنا ويُقوّينا، ويَجعلُنا غير يائسين ومجاهدين، هو القيامةُ المجيدة.

فيسوعَ أمات الموت على الصليب، لأنّه الحياة ومُعطي الحياة.

إلى الرّب نطلب.

[1]."اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ." (لوقا ٣٥:١).