هل تدخل منظمة ​الأمم المتحدة​ كتاب التاريخ وتصبح فصلاً من دروسه كما انضمت بالأمس شقيقتها عصبة الأمم عام 1946؟ الأحداث تعيد نفسها والتاريخ يراجع ذاته، بعد فشل الدول مجتمعة في حلّ النزاعات والقضايا المصيرية. لنفس الأهداف نشأت هذه المنظمات بعد حروب عالمية كبرى. فعصبة الأمم تأسست عام 1920 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بمسعى من المنظمات الشعبية التي تنادت وطالبت بإنشاء منظمة دوليّة تهدف للحد من عملية التسلّح العالمية، وفضّ النزاعات الدولية للحيلولة دون حصول حروب كبرى.

ومن واشنطن، أعلن الرئيس توماس وودرو ويلسون[1] عن المبادئ الأربعة عشر وانطلق بها الى باريس حيث ولدت من رحم معاهدة السلام التي أنهت الحرب العالمية الأولى في كانون الثاني 1920.

ولنفس الأهداف التي تأسست من أجلها منظمة الأمم المتحدة، تعهدت عصبة الأمم بتحقيق السلم والأمن الدوليين، وتنمية المجال الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والنهوض بالدول النامية، فجمعت 48 دولة وانطلقت من مقرّها في جنيف-سويسرا. ومع انها حققت بعض الإنتصارات، ولكن كان لها سجلّ نجاح مختلط، وفي بعض الأحيان، وضعت المصلحة الذاتيّة قبل الإنخراط في حلّ النزاعات. وبعد عجزها عن منع غزو اليابان لمنطقة منشوريا، وانسحاب المانيا من العصبة بوصول ادولف هتلر الى السلطة، وبعد فشلها في نزع السلاح عام 1934 عندما رفضت الدول الكبرى التخلي عنها، وعجزها عن منع إيطاليا من احتلال اثيوبيا عام 1936، والأهم من كل هذا، لم تقدر ان تمنع نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، فحكمت على نفسها بالإغلاق، عندها بدأت الدول الكبرى جدياً بتأسيس منظمة جديدة أطلقوا عليها إسم "الأمم المتحدة"، انطلقت من مدينة سان فرانسيسكو عام 1945، حيث كان أحد مؤسسيها والذي وضع شرعة حقوق الإنسان المفكر والدبلوماسي اللبناني الكبير شارل مالك.

واليوم، وبعد مضي 78 عاماً على تأسيس منظمة الأمم المتحدة، تقف كبيرة المنظمات مشلولة أمام حلّ النزاعات في العالم والتي بلغ عددها 72 نزاعاً، بين حروب ومجاعات ومواجهة تحديات المناخ، وفقدان التعليم في الكثير من الدول والى ما هنالك من قضايا عالقة يذهب ضحيتها الملايين يومياً.

وتعقد المنظمة الدولية عشرات الإجتماعات والقمم يومياً في مركزها الرئيسي في نيويورك وفي مختلف فروعها في العالم،بشأن توسيع صلاحيات مجلس الأمن وتطوير قوانينها، والنتيجة خطابات وبيانات تذهب لتستريح في أدراج الأرشيف عند المساء، والزعماء المتخاصمون يذهبون "لتناول كأسٍ" في أحد مطاعم نيويورك بعد عناء وشجار كلامي في جلسات مجلس الأمن "غير الحافظة للسلم والأمن الدوليين".

ومع أنها نجحت، عن طريق التفاوض، في تسوية نزاعات إقليميّة مثل وضع حدّ للحرب بين إيران والعراق، وإنهاء الحرب الأهلية في السلفادور، انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان، إنهاء الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وتقديم المساعدات الإنسانيّة الى ضحايا النزاعات الدوليّة، غير أنها لم تستطع ان تمنع تساقط أوراق الفيتو في جلسات مجلس الأمن الطارئة لمنع إيقاف النزاعات الكبيرة في أسوأ مشاهد لا يمكن وصفها إلا بالنكايات والمصالح، تدفع ثمنها الشعوب المقهورة والمنتصر واحد او إثنان.

وكما وقف أمين عام الأمم المتحدة السابق بان كي مون عاجزا عن تقديم أيّ نصيحة مستعيضاً بتوفير أطنان من " القلق" والنداءات الداعية الى التهدئة، يقف اليوم خلَفهُ أنطونيو غوتيريش في نفس الدوامة عاجزا عن إقناع روسيا بوقف هجومها، تماماً كما وقف سابقا كوفي أنان امام قرار هجوم الولايات المتحدة على العراق. ويتبيّن هنا ان الدول الكبرى هي التي تحكم وتتحكّم بمصائر الشعوب، وليس باستطاعة قادة الأمم المتحدة إلا القلق او الرضوخ.

ومن "أم القضايا" فلسطين مرورا بأزمة سوريا واليمن، وصولا الى فشل عقوبات الأمم المتحدة على إيران لوقف برنامجها النووي، وليس آخراً وقف تهديدات "السيد كيم الكوري" بإمطار كوريا الجنوبية والولايات المتحدة بصورايخ بالستية، توصّلت بعض الدول الكبرى الى حقيقة مفادها ضرورة انهاء دور الأمم المتحدة وإقفالها أسوةً بعصبة الأمم بعد فشلها في حلّ القضايا الدولية وحفظ الأمن والسلام الدوليين.

والكلام ليس كلام صحف، إنما تقارير رسمية تدور في أروقة واشنطن، مصدرها باريس، تدعو الى إقفال منظمة الأمم المتحدة واستبدالها بمنظمة دوليّة تحت مسمّى آخر، وبشروط حديثة تماشي الأزمات العالمية المعاصرة.

أطلق الفكرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، بحسب مصادر في واشنطن، بعد أخذ موافقة روسيا، والسبب هو خروج العالم من تحت سيطرة القيادات المؤثرة التي تتحكّم بقرارات الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي. المشروع قيد النقاش في العواصم الكبيرة، والكل يجمع على ان المنظمة لم تعد قادرة على حفظ الأمن والسلم في العالم، وهي محكومة بقوانين صارمة يطلقها أصحاب تريليونات الدولارات في العالم.

ماذا سيكون مصير القرارات الدوليّة والمحاكم الدوليّة إذا ما تمّ إغلاق الأمم المتحدة، حتما ستصبح حبراً على ورق. والسؤال المطروح اليوم، هل ستنجح الدول في تأسيس البديل عنهايُصلح ما أفسدته المصالح الدولية في العقود الماضية؟ هل سترضى الصين الطامحة الى عزل الشرق مع حليفتها روسيا في "آسيا مشرقية واحدة"؟ وهل ستقبل الدول الإفريقية الساعية الى دخول مجلس الأمن مع الإحتفاظ بحق الفيتو؟ والهند التي تدور في فلك مجلس الأمن طالبة مقعداً ثابتاً مع حقّ ورقة النقض؟! وهل ستقبل بها أمّ إقتصادات العالم "الصين"، الجارة اللدود؟.

فرنسا تعتبر ان فكرتها سهلة التحقيق طالما تنظر الى عجز الأمم المتحدة عن حلّ القضايا والنزاعات الدوليّة، لكن ربما تاه عن فكرها ان الولايات المتحدة لن تسمح ببناء منظمة دوليّة ثالثة إلا على أرضها كي تكون صاحبة القرار الأول، وربما لم تنتبه الى جبروت الصين الإقتصادي او روسيا الموجودة بقوة في أوكرانيا والطامحة الى ضمّ مولدوفا وبولندا وربما أكثر في السنوات المقبلة حسب تقارير اعلاميّة، فهل يقبلان بعد كل هذه الإنتصارات المالية والعسكرية بأقل من استضافة المنظمة الجديدة على أرضهما؟.

فرنسا تلعب بالنار... والتعويل على الإنتخابات الأميركية المقبلة عام 2024 من شأنه أن يغيّر برامج كثيرة عالميًّا، لكن قبل هذا المطلوب إنقاذ اميركا العجوز في السياسة وحملِها مجدداً الى الملاعب الغنيّة في إفريقيا والشرق الأوسط بعد خروج مهزوم من حقول آبار النفط والذهب والمعادن الرنانة.

[1]توماس وودرو ويلسونولد في 28 كانون الاول 1856 وتوفي في 3 شباط 1924، هو سياسي وأكاديمي أميركي شغل منصب الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة من عام 1913 إلى 1921.