ونظرَ اللهُ الى خلقِهِ بعدَ كرّ السنين، فإذا بشعبه الذي اختارَهُ رسولاً للأممِ وهاديًا للشعوبِ، قدْ غرقَ في الشرّ ليُسخِطَ اللهَ. وهُم وملوكُهم ورؤساؤهم وكهنتُهم وانبياؤُهم يقول الرب، لقد ولّوني قُفِيَّهم لا وجوههُم، ونصبُوا أرجاسَهُم في البيتِ الذي دُعيَ باسمي لينجِّسوه.

بهذه الكلماتِ القاسيات، يُلخِّصُ إرميا النبي موقفَ الناسِ من مُبادرات اللهِ الخلاصيَّة المتلاحِقَةِ العنيدة؛ هُمْ مُصرّونَ على رِجْسِهم إزاءَ إصرارَ اللهِ على خلاصِهم وصلاحِهم. كسرُوا النِّيرَ وقطعُوا الرُّبطَ وعاثوا فسادًا وإفسادًا ، حتى كرهَتِ الأرضُ مَنْ عليها، وحبستْ خيرَها وابتلعَت انهارَها، وقذفت حِممَها، كمنْ يريدُ أنْ يتخلَّصَ منْ عبءِ ثقيلٍ، ملكَ ظهرَهُ وتشبَّثَ بكتِفيه.

ثورةُ الأرضِ على بنيها، غضبُ اللهِ على أرجاسِ شعبِه، ملوكُ المشرِق يحتلَّونَ أرضَ المقْدِسِ ويسبونَ الشَّعْبَ الى بابِلَ عبيدًا كما كانوا في مِصرَ، رجالُهم يُسخِّرون في العملِ الدَّنيء ونساؤهم إماءٌ في قصورِ الأكاسِرَة يخدُمنَ، كمنْ لا ربَّ لهُ يحميهِ من نعالِ أسيادِه الناسِ القُساة.

في هذا الواقع الأليمِ حيثُ اعتقدَ الناسُ انَّ اللهَ هجرهُم الى الأبدِ وتركَهُم شعبًا مهمَلاً تتلاعبُ به أيدي الغزاةِ، في هذا الواقعِ، زهّرت كلماتُ الأنبياءِ لتُنْبئُ أنَّ اللهَ باقٍ على عهدهِ، وإنْ قستِ الأيامُ على شعبه فشكّكَ في صدقِ إلهه، ذاكَ لأنَّ افكارَ الربِّ ليستْ أفكارَ الناسِ وطرقُهم ليستْ طُرُقه يقولُ الربُّ على لسانِ أشعيَا.

أنبياءُ الله بينَ شعبِه ما هُم الاّ علامةُ صدقِ اللهِ ووفائِه لوعودِه وإصراره على تحقيقِ مبادراتهِ ناجحةً تامةً. هؤلاء الأنبياءُ الذينَ يصِلونَ الحاضرَ بالمستقبلِ عبرَ تجديدِ وعدٍ ماضٍ، هُمْ شموعُ هدايةٍ وعصيُّ تأديبٍ ومشاعِلُ نورِ يُرسِلُها اللهُ حينَ يفتقِدُ شعبَهُ فيهدي من تاه ويؤدِّبُ من قسا وتسلّطَ ، ويُذكِّرُ بالوعدِ والعهدِ اللذين ربطَ بهما الآباء الأولينَ "أنا الهك وأنت شعبي".

هؤلاء الأنبياءُ هم الخطَّ المفتوحُ بين السماءِ والأرضِ ينقلونَ كلامَ اللهِ وارادتَهُ الى النَّاسِ بكلامِ الناسِ وأفعالهم. علامةٌ، هُمْ، من علاماتِ الحضورِ الالهيّ بين النّاسِ، جاؤوا يؤكدّونَ أنَّ اللهَ ما نسِيَ شعبَهُ ولا كفر بما صنعتْ يداه، فوقفوُا سيفًا في وجهِ الظّالمِ يُنذِرهُ ويهديهِ، وبلسمًا معزّيًا على جرحِ المستضعفينَ يبشّرهم بما صنع اللهُ لأوليائه المقهورين.

أنبياءُ اللهِ بينَ شعبه علاماتُ خلاصٍ من واقعٍ أليمٍ وأمسٍ ذميم، هُمْ دعاةُ تجديدِ العهدِ رغم الحالةِ الذريَّةِ التي وصلها شعبُ اللهِ، على يدهم عرف الناسُ أنَّهُ ستأتي أيامٌ يقطعُ اللهُ مع شعبِهِ عهدًا جديدًا، بعدهُ تدخُلُ شريعةُ اللهِ في ضمائرِ كلِّ النّاسِ فيعرفُونَ اللهَ صغيرُهمُ وكبيرُهم.

في تلكَ الأيام سوف تتجدَّدُ النُّظُم والأحكامُ، فلا يُقالُ من بعدُ أنَّ الآباءَ أكلوا الحِصرمَ وأسنانُ البنينَ ضرِسَت، بل كلُّ واحدٍ بأثمهِ يموتُ وكلُّ إنسانٍ يأكلُ الحِصرَمَ فإنَّما أسنانُهُ تضرَس.

مبارداتُ اللهِ في أنبيائهِ دفعٌ جديدٌ للرجاءِ الصحيحِ ورفضُ الانحصار في الحاضرِ القصيرِ المُستسلم. هي قدرةُ تحويلِ الرجاءِ من الفردِ الى الجماعَةِ، ومتى تمَّ التحوُّلُ، تمَّ ضمانُ الاستمرارِ وانحسرَ القلقُ على الغدِ. انبياءُ اللهِ زرعوا المشاركةَ الصحيحةَ بينَ الناسِ ومعهُم زهّر التَّضامن الصادق، لأنَّهُم صوَّروا حقيقةَ اللهِ الرَّافضةِ للقهرِ، فبثُّوا بينَ الناسِ روحَ التحرُّرِ. معهم لم يعُد الايمانُ بالله ِ وبقدرتِهِ التعزيةَ السلبيَّةَ لِلمعوزين المحتاجينَ المغلوبينَ، إنَّما غدا الايمانُ ثورةً على الخنوعِ ونزوعًا نحو تحقيقِ الآمالِ بالعملِ الحُرِّ. ولم يعد جوهَرُ الاخلاقِ واساسُها الخضوعَ للسلطَةِ القائمةِ خضوعًا استسلاميًّا ، أكانتِ هذه السلطةُ زمنيَّة أم روحيّةً، بيتيّةً أم مجتمعيّةً، إنَّما أصبحتِ الاخلاقُ دعوةً الى المُجاهرةِ بالحقِّ في وجهِ المتسلِّطِ أو المخطئِ أو المضلِّلِ.

أنبياءُ اللهِ بينَ شعبِه، هُمْ خميرةُ المصالحةِ بينَ الانسانِ ومعتقداتِهِ وممارساتِه الايمانيَّة، هم يقظةٌ على حقيقةِ ما ارادهُ اللهُ من النَّاسِ، ونفضِ الغُبارِ المتراكِم على جواهِرِ المقدَّساتِ، فنقلوا العبادةَ من تقديسِ المادَّةِ والسُّلطةِ والقدرَةِ والطّبيعةِ الى روحانيَّةٍ سليمةٍ، معها تموتُ وثنيَّةُ الأشياءِ وتتكسَّرُ قيودُ النَّواميسِ المُتحجِّرةِ، لتحلَّ محلَّها سبلُ الايمانِ المستقيمِ مبدأً وممارسةً.

معهُم نضجتْ قدرةُ التمييز بين الصالحِ والفاسد في أعمالٍ، قد تخدَعُ بمظاهرها قوى التمييز عند الناس، وأولها مظاهرُ التديُّنِ الكاذبةِ، فاسمعهمُ يقولونَ بوحيٍ من ربِّهم: ما فائدتي من كثرةِ ذبائحكُم، قد شبعتُ من محرقاتِ الكباشِ وشحمِ المسمَّناتِ؛ أليسَ الصومُ الذي فضّلتُه هو حلُّ قيودِ الشرِّ وفكِّ ربطِ النيرِ وإطلاقِ المسحوقينَ أحرارًا وتحطيمِ كلِّ نيرٍ ؟ أليسَ هوَ أن تكسِرَ للجائعِ خبزَكَ وأنْ تُدخِلَ البائسينَ المطرودينَ بيتَك؟ جعَلَنا الأنبياءُ نعي بتعقُّلٍ وايمانٍ كيفيةَ التحوُّلِ منَ الصنميَّةِ في الممارساتِ الى المحبَّةِ التي تُلخِّصُ مستلزماتِ الايمانِ الصحيحِ، والتي تكفي بذاتِها، اساسًا لممارساتِ الانسانِ، فيتصرفُ معهَا بعدلٍ ورحمة.

أظهرَ الأنبياءُ أنَّ مبادراتِ اللهِ لا تتِمُّ إلَّا اذا تمهَّد السبيلُ أمامَها، وذاكَ بِتَنْقيَةِ المجتمعِ من جملةِ مفسداتٍ ضربتِ البُنيةَ الاجتماعيةَ من رأسِها وما دون. لذا تراهُم يندّدونَ تنديدًا شديدًا بالاوثانِ الساسيَّةِ التي جعلت تدبيرَ شؤونِ الناسِ ضربًا من الصنميّة التي تُعمي الشعبَ عنِ الحقِّ لتتجهَ بفكرِهِ وقلبِهِ نحوَ عبادَةِ الشخصِ وتأليهه، صنميّةٌ تحوّلت معها السياسَةُ من الاهتمامِ بسعادَةِ الناسِ الى الاهتمامِ بسعادةِ فردٍ منهُم، رئسَ الجماعةَ وتسلَّطَ على حقوقَها وصادرَ قرارَها وحجبَ رأيها وحجزَ حُريَّتها.

ندَّد الأنبياءُ بالقوى العاملةِ على الأرض أكانتَ مَلِكاً أم قيادةً أم حزبًا أم حركةً، لأنها حاولت أن تَظهرَ للنّاس بمظهرِ الأله، وتلزمَ الشعبَ بالطّاعةِ العمياءِ وتفرِضَ عليه الموجباتِ اللاّ شرعيّة، وتستعبدُهُ بدلاً من أنْ تسعى لتحريره. هذه القوى استوجبَت زجرَ الأنبياءِ لها زجرًا عنيداً قاسياً، لتُعيدها الى حجمِها الأصيلِ، فاذا بنا نرى " ناتان" النبيَّ يزأر بوجه الملك، فجعَلَهُ يعي الحقيقةَ وقد كان غافلاً عنها او متغافلاً، جعلَهُ يقرُّ بظلمهِ للناسِ ويعترفُ بذنبه أمامَ اللهِ والناس. وهذا " ايليّا النبيّ يبيدُ كهنةَ البعلِ بكلامِ من نارٍ ويُهدِّدُ آحابَ الملكَ بزوالِ ملكِهِ، لأنّه أشركَ باللهِ وعقد أحلافًا مع الشَّر. وهذا " هوشَع" ومعه " عاموص" يقفانَ بوجه ملوكِ زمانهما وساسةِ ايامهما يُنبّهانهم الى أخطاءٍ مهلكةٍ لهم وللشعب، لأن سياستهم خاطئةٌ وتدبيرَهم غير حكيمٍ، وذاكَ بتحالُفاتٍ عقدوها مُتكّلين على رأيهِم وقوَّتهم، مُهملينَ النُّصحَ والمشورةَ الحقَّةَ، مبعدينَ اللهَ عن قلبِهم وأعمالِهم.

هذه أيّها الأخوةُ، مبادرةُ اللهِ في أنبيائه، رسالةٌ من لدنِه تُعيدُ المشعَلَ الى اليدِ التي تستحقُّهُ ليكونَ نورَ هدايةٍ وعصا رعايةٍ، وقد جعلَ اللهُ أنبياءهُ في اوساطِ شعبِهِ كلِّها من كهنةٍ وملوكٍ وساسةٍ وقادةٍ وشعبٍ، كي لا يسقُطَ واحدٌ من أبناءِ اللهِ في يدِ الشريرِ ولا تُمدُّ يدُ اللهِ لانتشالِهِ.

ألا ترانَا اليومَ نعيشُ ايامًا احوجَ ما يكونُ فيها حُكّامنا وقادَتُنا وشعبُنا الى سماعِ صوتٍ نبيٍّ قائمٍ بينهم، وقد خنقتْ صوتَهُ اهتماماتٌ أخرى، نراها ولا نراه، صوتِ نبيٍّ يصرخُ من داخل ذواتِنا ويقولُ ويلٌ للرعاةِ الذين يُبيدونَ ويشتِّتونَ غنمَ رعيَّتي. نحنُ في زمنٍ لا يجوزُ فيه لأحدٍ أن يخنقَ صوتَ نبيٍّ أو يأخذَ مكانهُ ويتنبّأ على هواه، لأنَّ اللهَ على الذين يتنبَّأون بأحلامٍ كاذبةٍ ويُضلّونَ الشعبَ بأكاذيبهم وعُجْبهم يقول الربُّ، أنا لمْ أُرسلهم ولم آمُرهم وهمْ لا ينفعونَ الشعبَ في شيء. لذلكَ ها أنذا انساهُم وأنبذُهم، هُم والمدينةُ التي أعطيتُها لهُم ولآبائهم، أجعلُ عليهم عارًا أبديًّا وخزيًا أبديًّا لنْ يُنسى.

فحذارِ، إن كنْتُم تسمعُون. والسلام .