يُراودني سؤالٌ ويقلقُني، لأني معهُ ألامسُ الشكَّ وأحاذي برودةَ الإيمان، وهو السؤال الذي يطرحُه علينا وعلى أنفسهم مُعظمُ المؤمنين في ساعات المحنة وقساوة الحياة، ألا وهو : كيف لي أن أثق بإله، قيل لنا أنّه ملء الرحمة والمحبّة والعدالة، وهكذا صوَّرته لنا الكتبُ المقدّسة وكلمات الانبياء والرسل، زِدْ عليها ما قاله السيد المسيح عن أبينا الذي في السماوات الذي يريد سعادةَ الناس وفرحهم وخلاصهم الى الأبد. وكيف لنا أن نؤمن بإله المحبّة هذا، ونحنُ نرى من حولنا الويلات والمآسي والآلام والظلمَ والأمراضَ والأوبئة والزلازل والبراكين وما الى ذلك من مصائب الناس وأهوال الطبيعة، ولماذا أو كيف يسمح إله الرحمة والمحبّة بكلّ هذا ولا يمنع حدوثه لأجل فرح الناس وطمأنينتهم وسعادتهم؟ كيف تحصَلُ كلّ هذه الويلات أمام أعين الضابط الكلّ الذي لا تسقط شعرة من رؤوسنا إلا بعلمه وإرادته؟.

وكيف يرضى مالك التاريخ العام والتاريخ الشخصي لكلِّ واحدٍ من الناس، أن يبقى الألمُ والموتَ وكل الويلات تزرع الحزن والشقاء في تفاصيل حياة الناس صغارًا وكبارًا ؟ أتراه يعيشُ في سمائه بعيدًا عن العالم ولا تعنيه كلّ أحداث الزمن ؟ اذا كان كذلك فلماذا التجسَّد والموت على الصليب حيث عُلّقتِ الخطيئة ومات الموت والشيطان، وخلُصَ الناس من جحيم عذابات الخطيئة والمعصية والعقوبات التي نزلت على بني الانسان بسببها؟.

في محاولاتي العديدة كي أجيب على هذه التساؤلات، كنت أرى دائماً الصليبَ ثابتاً واقفاً في منتصف الوجودِ وكلُّ الباقي يدور ويدور، وكأنَّه يقول لي : أنت وسواكَ من البشر تشكّلون محور تاريخ الخلاص بكلّ ما فيه من مرارةٍ وحلاوات.

لم يمنعني هذا الكلام من الاستمرار، ليس بالتساؤل حول المحبّة في قلب الله وفكره فقط، بل يصلُ الأمرُ لوضعِ وجوده موضع تساؤل.

يكفي ان يكون ليمنع حصول الشرور التي يتحمّل الناس نتائجها، فكيف اذا كان كلّ المحبّة والرحمة. تساؤلات طرحها الرسول يوحنا في رسالته حيث قال: أيجوز كلّ ما يحصل للخليقة من شرور، وأن يتحمّل الانسانُ كلّ الويلات وكأنّه متروكٌ وحيدًا لتسحقه مصاعبُ الحياة مرميًّا بلا رجاء، وكلّ ذلك بوجود خالقِه ومخلّصِهِ وفاديه؟ مِمَّا يجعلُ لوحة حياة الناس قاتمةً بل سوداء دامية.

وتأتيني ملامِحُ الإجابات عن كلّ هذا، وكأنّ الله يسمحُ للانسان المتألم بأن يحكُم على الله. ولم تعد المسألة محصورة بالتساؤلات ، بل وصل الأمر الى إطلاق أحكام على الله، تصلُ الى وصفه بالقاسي وغير العادل وعديم الرحمة، ويأتي الابليسُ ليزيد في أوصاف قساوةِ الله على الانسان، وهدفهُ تحويلُ الانسانِ عن الإيمان بالله والعودةِ الى مستنقعِ الخطيئة. ولنا في العهد العتيق نموذجٌ عن هذا هو سِفرُ أيوب.

وتعود الى بالي مسألة الصليب الواقف في وسط الزمن، وأتساءلُ لماذا شاء الله أن يخلّض البشر عبر الألم والموت وكلّ عذابات الجلجلة ودرب الصليب ؟ أتساءل ولا انتظرُ جوابًا من الله او تبريرًا لما حصل على الجلجلة، وكأنّ هذه الصورة المُشبعة بالآلام تقول لي، أينّ آلام البشرية مِمَّا جرى لابن الله المتألم الذي حمل صليبه وعليه كلّ خطايا البشر من أولهم إلى آخرهم؟ وبهذا الألم أثبت الله أنَّه إله محبّة وعدالة، من دون أن يكون فعلُه هذا جوابًا على تساؤلاتنا، إنَّما أتت هذه الاحداث، من التجسّد الى القيامة، لنفهم أنّ الله هو العمانوئيل، وليس بعيداً ولا غائباً عن تاريخ البشر، بل هو الله الذي يقاسمُ الانسانَ تاريخه وآلامه، من أجل الوصول الى النهايات السعيدة، الى القيامة. وبهذا إثبات على أنَّ الله ليس بعيدًا ولا مكتفيًا بذاته ولا منفصلاً عن تاريخ الناس.

واذا كانت الآلامُ هي التي تُقلقُ البشرية، فقد جعلهم يَرَوْنَ أمام الصليب، بأنَّ الآلام ليست الغاية ولا النهاية، وأنّ إرادة الله ليست عذابَ البشر وموتهم بل خلاصهم وسعادتهم. وأنَّ الله يقاسم البشرَ عذابهم ، على حدّ قول بولس الرسول: لقد واضع نفسه وأطاع حتى الموت على الصليب، ليظهر للناس أنّ الله يـتألم مع المتألمين لينتهي بهم الامرُ قائمين معه الى عالم السعادة والمجد.

ويبقى السؤال: اذا كان الله كلّي القدرةِ لماذا لا يُزيل الآلام والمصائب من تاريخ البشر العام والشخصي؟ لماذا الحروبُ والمآسي التي يسبّبها البشرُ لبعضهم البعض، ولماذا كوارثُ الطبيعة؟ فهل يعجزُ الله أمام ما صنعت يداه؟.

من السهل القول إنَّ الله عاجز أمام حُريَّةِ الانسان حتى ولو اختار هذا الانسان فعلَ الشرِ، لأنَّ حريّة الانسان تأتي من كونه خُلِقَ على صورة الله ومثاله. والله لم يندم على هذا أبدًا، وقبلَ أن يحاكمه الناس بشخص اليهود وبيلاطس، ومن يتأمل سياق المحاكمة يجد أنَّ المسيح حُكِمَ عليه ليس بناءً على الحقِّ، بل على حرِّيّة الناس القادرة على فعل الشرور، حتى في وجه الله. ولم يمنعهم الله من فعلِ ما فعلوه، لأنّه آتٍ في مشروعٍ خلاصي يقضي بأن يموتَ المسيح ابنُ الله. وايُّ شرٍّ أكبرُ من أن يموتَ ابنُ الله على يدِ المخلوقِ الذي حَمَل صورة الله ومثاله.

هذه المحاكمة غير العادلة هي صورة ما يجري اليوم من أحكام جائرة بحقّ الأبرياء في دولٍ لم تعرف قيمة الانسان الحقيقية، فقتلت الأجنَّة في بطون أمهاتهم، وقتلت الأبرياء في محاكمات صوريّة جائرة، وقتلت المدنيِّين بالحروب وتجارب الأسلحة، والى جانب هؤلاء المقهورين شاء الله أن يكون، وأن تتجلَّى عظمته وقدرته بقبوله الألمَ والظلم. لأنّه لم يشأ أن يهدُم مشروعه الخلاصي، ولو شاء لنزل عن الصليب حين قال له اليهود، إنزل عن الصليب لنرى ونؤمن أنَّك ابن الله.

أجل لو نزل عن الصليب ، لما كان الله إله محبّةٍ ورحمة، بل إله قوّة وقساوة ، وليس هذا هو الله الذي بشَّرنا به يسوع المسيح وجعلنا نرى حبّه حتى بالموت على الصليب.

وختاماً أقولُ إنَّ كلّ ما يقوم به الإنسانُ من شرورٍ عائد الى حُريَّته التي سيُحاسبُ عليها، والتي من دونها، لا يستطيع الديّانُ أن يحاسبه على كل ما فعله، أمَّا ما يحصل من كوارثُ في الطبيعة من زلازل وفيضانات وعواصف هدّامة، فلماذا لا يعودُ الى كلمة الله حين قال لآدم "ملعونةُ الأرضُ بسببكَ، شوكًا وقرطبًا تُنبتُ لك". هذا ناهيكم عن أنّ الانسان الحرّ، قد عَبَث بالطبيعة وشوّه ما قد رآه الله حسنًا حين خلقهُ. وهكذا يُسهِمُ الانسانُ بشرّة الخاضع للحساب، بشيء مما يجرى ولا نفهم لماذا يجري .