دخلنا اسبوعَ الآلامِ، دخلنا الزمنَ الذي يستدعي التأملَ في مأساةِ البشريَّة جمعاء، تلك المأساةَ التي كانت، منذ كان الخطأ الأول، الخطأ الذي به، كان الانقسام وبالانقسامِ كان الألمُ فالموتُ، ذاك الذي لم يُغْلَبْ الاّ بالموتِ، لتصيرَ القيامةُ فالحياة.

لنا في هذا الأسبوعِ ، لقاءات هي مواقفُ تأملٍ، واستخلاصُ عبرٍ، فانتهاجُ حياة.

نَبدأُها اليومَ، بتأملِ فعلِ الانقسامِ الذي زرعَهُ الثَّلابُ، في ضميرِ الناسِ، فاستعدى الواحدُ اخاه، وقتله، واحتقر ذاته، فدنَّسها، وعاند اللهَ فجدَّفَ، وما خاف.

عملية الشيطانِ التفريقيّة هَذِه، افسدتْ عالمًا كان الله قد رآه حسانًا حين خلَقَهُ، وبكل آياتِ الحسنِ جَمَّلْه. لقد أُفسِدَتِ العلاقة بين الذات والذات، وبين الذاتِ والناس، وبين الذاتِ والله وبات الانسانُ غارقًا في كونٍ من التردُّدِ القاتل، ساعة يرقص للبعل وساعة يسجد لله، وبين هذه وتلك، يرى في نفسه إلهًا، اجدرَ بالعبادة، من صَنَم عَرَفَهُ فحطَّمه، أو من إلهِ لَمْ یدرِكْهُ فأنکره.

هذه الحالُ من التمزق لصَقَتْ بنا، نحن البشرَ، لصوقَ اللحم، وتجلَّت في الظاهرِ ازدواجيةً في المواقِف، فبتنا لا نعي ما نريدُ، ولا ندركُ ما نصبو اليه، فوقعنا بآنيَّة المصلحةِ، مبتعدينَ كلَّ البعد. عمَّا هو خيرٌ مطلق وحقٌ مطلق، وجمالٌ مطلق، فآثرنا رِفعةَ الفرد واذلالَ الجماعةِ على شرفِ الفردِ في خيرِ الجماعة، وابتعدنا من كلِّ سبيلِ، يهدفُ الى الغايةِ السُّميا للانسان والمجتمع، وكأنَّنا ما زلنا نعيشُ في ملكوتِ الشيطان، وكأنَّ اركونَ هذا العالم، لم يَمُتْ بعد، ولم يُعَلَّقِ الشيطانُ والخطيئة والموتُ على الصليب، يومَ حملَ الصليبُ ثمرةَ الخلاص.

وكأنَّنا في كل مرّة نقولُ طالبين ليأتي ملكوتك "نُقِرُّ إقرارًا ضمنيًا بهذا الواقع، ونما الشرّ بالانسان حتى البلوغ، فقتل قايينُ اخاهُ، وصارَ الانسانُ عدوَّ الانسان، وغدا يبحث في حنايا نَفْسِه الأمَّارة بالسوء، عن كلِّ ما يُغرِّقُهُ في ترابه، ويبعده عن مدى عليائه. وبات، إن أُعطِيَ سلطانا تسلّط، وان حُكِّمَ تَحَكَّم، وان إئتُمِنَ غدرَ، وان حُرِّرَ فجَر. لقد استذأب الانسان بعد الانقسامِ الأول، ورأى في الآخرينَ ذئابًا، غير أنَّه في كلّ مرّة لم يكنْ ليغرقَ تمامَ الغرقَ، لأن النورَ الذي فيهِ ما خنقَهُ الظلامُ ابدًا، فظلّ، في سفَرِهِ الطويل، قدَمًا على الماءِ تهمُّ بالغرقْ، وعينًا على المنقذِ تدْمَعُ بالرجاء، وفي الحلقِ صرخَةُ ايمان.

لقد ترك الثَّلابُ الناسَ، في تردُّدٍ قاهرٍ بين اللهِ والبعل، وكأنهم على جبلِ الكرمل ِ يقفون ابدًا، ينتظرون النارَ التي ستنزلُ من السماءِ لتفصلَ بين الحقِّ والباطل، بين الايمان المستقيم الراسخ، والتردُّدِ الدائم المُرْبك. لقد تركهم يعيشونَ سِفر خروجهم، ناظرينَ مَنْ يُنقذُهُم من هذا التجاذبِ، بين الّلا والنعم.

هذه التركةُ الشيطانيّة العارمة، عبَّر عنها بولسُ الرسولِ، حين قال: "الخيرُ الذي اريده لا اعملُه، والشرّ الذي أكرهُ، ايَّاه اعمل"، ممَّا يدل على أنَّ كلّ نفس، مهما بلغت من درجات القداسةِ والغيرة على الحقِّ، تشعرُ بهذا التناقضِ الرهيب، واكثرُ مَنْ يشعرُ به، هو المسيحيُّ المؤمن، الذي يدرِكُ ان هذا التناقضَ قائمٌ، طالما هناك، سيِّدٌ وعبدٌ، طالما هناك غنيٌّ فقيرٌ وامرأة ورجل، وقاهِرٌ ومقهور، يعني، طالما أن المسيحَ لم يصبحْ بعدُ كلاّ في الكلّ، يعني، طالما لم ندخلْ بعدُ ملكوتَ اللهِ تمامَ الدخولِ، وأنَّنا ما زلنا، نتخبط في ملكوت، اسيادُهُ ناسٌ ناقصوا الراي، اسياده ناسٌ، اهواءَهم يتّبعون، وفي كل مهلكة يرتمون، هُمُ ناسٌ، عن العدلِ يبتعدون، وبالظلم يرغبون، هُمُ الناسُ الضالونَ المُضِلون.

لقد عبَّرت بعضُ الفلسفاتِ، عن هذهِ الثنائية، بنوعين من المجتمعات متمثَّلَين بالهَين متميِّزين. فالمجتمعُ الأول وفيه العتمةُ والفجورُ والشذوذُ والخمرةُ والسيّئات، وميزاتُه المخاصمةُ والحربُ، والغزوُ والتسلُّطُ، والقهرُ ومصادرةُ الحريَّات، وصفةِ العدائيةِ غالبةٌ عليه، وإله هذا المجتمع هو ديونيزوس.

اما المجتمع الثاني فمسالمٌ منطقيٌ عادلٌ متزنٌ، للخُلُقِيَّة فيه دورٌ أَوّل، وللحقّ سلطانٌ وللحريَّة ملاذٌ، وللكرامة مَنْبِتٌ وللوفاء إناءٌ، وللتضحية رجالٌ. وإله هذا المجتمع هو اﭙولون . وان شئنا أن نصِفَ هذين المجتمعَين بكلِمَتينِ لقُلْنا: واحدٌ، يعملُ اعمالَ ابناءِ النورِ، وآخرُ يعملُ اعمالَ ابناءِ الظلام.

ولو تأملنا، في واقعِنا الشخصي والمجتمعي، للمَسْنا أنَّ كلَّ واحدٍ يعيشُ في ذاته، تركيبةَ الليلِ والنهار، تركيبة ديونيزوس وأبولون، أنَّ كلَّ واحدٍ، يعيشُ الوضوحَ والابهامَ في آن، ويعاني في تكوينِه ألمَ التمزُّقِ بينَ الَّلا والنعم، بين البعلِ وبين الله، فلا عتمةٌ دامسةٌ دائمةٌ فينا، ولا نورٌ وهّاجٌ ساطعٌ دائمٌ فينا . لسنا بملاكٍ ولا بشيطان، انما نحن هذا وذاك معًا، في تركيبةٍ جديدةٍ هي الانسانُ، ذاك الانسانُ الحاوي القداسةَ والجنون.

كلُّ شيء فينا يوحي بالانقسامْ، اعمالُنا، رغباتُنا، احلامُنا مشاريعُنا سياسَاتُنا، حتى أنَّ كلامَنا الذي نقوله، غالبًا ما لا يعبِّر عن حقيقةِ شعورِنا، وكأنَّ كلَّ شيءٍ فينا، ممزّقٌ بين ديونيزوس وابولون، بين اللهِ والبعل، بينَ ما كُنَّا عليهِ، قبلَ الخطيئةِ، وبينَ ما صرناه مِنْ بعدِها.

لقد بدا هذا التمزُّقُ واضحًا في مُجْمَلِ الكتاب المقدّسِ، حيث تلتقي تركةُ آدمَ الأولِ وخطاياه، وانفعالاتُه وارتجالاتُه، ونزواتُه ومشاريعُه، بتركةِ آدمَ الثاني، وتضحياتهِ وعطاءاته، واحتماله وصبره، واناتِه ومحبَّته. هذا التضادُ فينا، هو على مستوى الكيانِ، وليسَ على مستوى الأعراض، لأننا نحملُ فينا التاريخَ كلّهُ، نحملُ حِكْمَةَ سليمان وطيشَ شاول، نحملُ جرأة يوحَنَّا وطهرَهُ، وجبْنَ هيرودوسَ وعِهْرَهُ، نحملُ شيئًا من ترابِ الأرضِ، وقد احياهُ شيءٌ، من روحِ السماء.

صلواتنا تركّز على وجود هذا التضادِ بينَ النورِ والعتمةِ فينا، وكأنَّها نريدُ أن نقولَ: مَنْ لم يعرفْ بستانَ الزيتونِ وعرقهُ المؤلم، لنْ يعرفَ مجدَ القيامةِ وهيبةَ التجلِّي.

كلُّ واحدٍ منا، يسعى لأنْ يخلُصَ من جَدَليَّةِ التمزُّقِ التي فيه، لأنَّهُ، وانْ كان المسيحُ قد أخذنا الى السعادةِ بقيامتِه، بقي انْ يتمّ فينا نحنُ، ما قد تمَّ بالمسيح؛ أجل عرف المسيحيُّ بالمسيح، الخيرَ المطلق، والنورَ المطلق، والحبَّ المطلق، فبات يدركُ، ما هي أهوالُ الشرِّ المطلق، والعتمةِ المطلقة، والكراهيةِ المطلقة. لأنّه مسيحيٌّ، عَرَفَ معنى الخطأِ ومعنَى الخطيئةِ، فالمسيحيةُ تزرعُ في الانسانِ، الى جانبِ الرجاءِ المحيي، القلقَ والتساؤل. لقد أتَتِ المسيحيةُ بمنطقٍ جديدٍ، يتخطّى جدليَّة التمزُّقِ، لا بالخروجِ من الليلِ إلى النهار، بَلْ بالخروج من الليلِ ومنَ النهارِ للدخولِ في منعطفٍ جديدٍ، هو دربُ المحبةِ. لذلك، ترفض المسيحية موقفَ الفريسيِّ المطمئنِّ الى نظافَة قلبه، وحسنِ سيرتِه ونقاوةِ سريرتِه، ترفضُه، لأنَّهُ يحفظُ الوصايا ويؤدي العشورَ ويعملُ كلَّ ما يطلُبُ اليه الناموسُ عملَهُ، ترفضة لأنه يعيشُ منطقَ ابولون ويعتقدُ أن حسابَهُ مع اللهِ، قد انتهى، لقد نَسِيَ أنّ عليهِ الخروجَ مِن حالِ التمزُّقِ، لا باتباعِ الناموسِ بل بالمحبة.

أجل، الطمأنينةُ ممنوعةٌ على المسيحيِّ في هذِه الأرضِ، واقولُ: " إنَّ المسيح لم يرْتَحْ بعدُ، ولنْ يرتاحْ، طالما أنَّ ابنًا شاطرًا واحدًا، لم يعدْ الى البيتِ الأبوي بَعد".

هذه، حالُنا، نحنُ نعيشُ في شريعةِ الليلِ كالعذارى، يحمل كلَّ واحد منَّا مصباحَهُ والكونُ يمشي والناسُ تتلهّى بالشؤونِ الحياتيةِ، ومصباحُنا يطردُ الليلَ، ولا يزيلُ عتمةَ الانقِسَام والتمزّق، التي سوف تبقى فينا، الى ان يأتَي العريس ويُنفخُ البوقُ وندخلُ معه الى العرسِ، ومعَهُ، يكونُ الواقعُ النهائيُّ، نورًا، ويكونُ تعثُرنا، وتمزُقنا، ومعرفتُنا، وجهلُنا طريقًا الى النور.

وليسَ عن عبثٍ أو وليدَ صدفةٍ، ان يكونَ آخرُ سفرٍ من اسفارِ الكتابِ المقدَّسِ هو سفرُ الرؤيا أو الجليان، حيثُ تسقطُ الحجُب، وينتهي عالمُ العتمةِ، ويعي الانسانُ جمال الحياة، بلا انقسامٍ وبلا زرع الشيطان، فيدركُ أنَّ كلَّ ما حمَلهُ في حياتِه، من قوىً تفرّق وتجزّئ، وتَعْزِلُ وتنعزِل، وتفصلُ وتنفَصِل، وتقتلُ لتعيشَ، وتظلمُ ليسودَ وتقسِّمُ لِتسْتَأثِر إنَّما هيَ من زرعِ الشيطانِ وإلى الشيطان مآلُها.