نتابع اليومَ، واليومُ خميسُ الأسرارِ، نتابعُ مسيرةَ الوِقفات التأمليَّةِ، التي بدأناها، حينَ تأمَّلنا بفعلِ الانقسام، وبمحاسَبةِ التاريخِ عليه وبفعل الرجوع عنه؛ نصلُ اليومَ الى بؤرةِ النورِ من أسبوعِ الآلام، إلى الخميس العظيمِ حيث تمَّ كلُّ شيءٍ قبلَ ان يتمَّ على الصليب.

في هذا اليومِ، قامَ المسيحُ الربُّ بعملَين خطيرَين هما موضعُ تأمُّلنا. لقد أعطى الخبزَ لحمه والخمرَ دمَه، ورسَمَ كهنةً وغسلَ اقدامَهُم وقال " أوَتفهمون ما أنا صانِعُه؟ إن فهمتم،" إصنعوا هذا لذكري".

إرادةُ المسيح أن يفهمَ تلاميذُه من كلامِهِ وأعمالِه هُنا، ما هو دورُهم حينَ يرحلُ عنهم، وإرادتُه أن يفهموا موقفَ اللهِ الدائمَ من الانسانِ، ذاك الموقفُ المحبُّ المعطاء السموح، وإرادتُه أن يفعلُوا هُمْ، كفِعْلِ أبيهم السماويّ. ألم يوصِهِم قائلًا: "كونوا كاملينَ كما أنَّ أباكم السماويّ كاملٌ هُو؟ ألم يعطِهم مثلَ السامريِّ الصالحْ، الذي داوى المجروحَ ، بعدما تركهُ كلُّ الناسِ وشبَّه نفسه بهذا السامري ّ الصالحِ، ليصورَ لتلاميذه علاقةَ اللهِ بهم، ويضيف " إصنعوا هذا لذكري" وكأنه يقولُ لا تصنعوا فقط كسرَ الخبزِ لذكري إنَّما اغسلوا أقدامَ بعضِكم، وكونوا ذاكَ السامريَّ الصالحَ لذكري، فأنا أذكرُ بالخدمةِ لأني ما جئتُ لأُخدَمَ بل لأَخدُمْ.

سوآل المسيحِ "هل تفهمونَ ما أنا صانعه"، يصوِّرُ في ذهنِ الرسُلِ و ذهنِنَا مفاهيمَ جديدةً للسلطةِ والسيادةِ والمسؤوليةِ، كما يصوِّرُ مفهومًا جديدًا للألوهة.

أنتُم تدعوني سيِّدًا قال المسيحُ، كلُّ الحقِ معكُم، فإذا كنتُ أنا السيِّد أغسلُ أقدامَكم، فكم أحرى بكم، أن يغسلَ بعضكُم أقدامَ بعض. وكأنَّهُ يقولُ إنَّ السُّلطةَ لا تُطاقُ، إلَّا إذا عشناهَا بمحبَّةٍ واتضاعٍ، أكانت هذه السلطةُ روحيةً أم سياسيةً أم عسكريةً ؟ اكانتْ سلطةَ ربِّ البيتِ أم ربِّ العملِ. لقد سلَّطَ اللهُ الإنسانَ على أعمالِ يديه من حيوانٍ و جمادٍ، ولم يسلِّطهُ على أخيهِ الإنسانِ، لأنَّ هذا الإنسانَ صورةُ اللهِ، دونَ تمييزٍ بين غنيٍّ وفقيرٍ، بين رجلٍ وامرأةٍ، بين عِرْقٍ وعرقٍ، أو لونٍ ولونٍ.

ليسَ عند اللهِ شعبٌ مختارٌ ولا جماعةٌ مختارةٌ، ولا رجلٌ مختار، إلا بقدرِ ما يكونُ هذا الاختيارُ للخدمةِ والعطاءِ وإيصالِ صورةِ اللهِ الحقَّةِ إلى الآخرين. لقد قال المسيحُ لرسُلِه أنا اخترتكم إنَّما اختياري لكم، لا لتجلسوا على كرسيِّ موسى، كما الفريسيونَ، لا لتأخذوا مفاتيحَ الحكمة فلا تدخلونَ ولا تدعونَ الآخرينَ يدخلون. بل، لتعملوا ما أنا أعملُه الآنَ "فهلْ تفهمون ما أنا صانعه"؟.

عملُ المسيح في هذا الخميسِ العظيم، نداءٌ مكررٌّ معجَّلٌ إلى البشرية جمعاء، إلى البشرية المتهالكة الغارقة ِفي الماديَّة القاتلة، التي لا تهتمُّ إلّا بالإنتاجِ والربحِ، على حسابِ المحبَّةِ وقيمةِ الإنسانِ الذاتية، هذه البشريةُ التي كادت تفقدُ معناها وسببَ وجودها، بتلهِّيها، بل باستماتتها في كلِّ ما هو استهلاكيٌّ مؤقت، مُهْمِلَةً القيمَ الكبرى، التي أراد المسيحُ إيقاظها في الضمائرِ حينَ غسلَ أقدام التلاميذ، أعني الأخوّةُ والوحدةَ والخدمةَ والاتضاع. هذه القيمُ التي أرادَ المسيح ُإحياءها، أرادَها أن تتجلَّى أولًا، في أعمالِ من أحبَّ فعلَّم وأرسلَ. لأنَّها، إن بقيَت في الضمائرِ تسقُطُ مهملَةً، وان تجسَّدتْ بالأعمالِ كانتِ بالفعلِ، وكانتْ لذكرِ المسيح، لأجلِ هذا قال "اصنعوا هذا لذكري".

عملُ المسيحِ في هذا الخميسِ، وضعَ كلَّ انسانٍ أمامَ ضميرهِ المسؤولِ الواعي، لِيُصحِّحَ مسارَ حياتِهِ، فكم منَّا نحنُ اليومَ، يرغبُ في أن يُخدمَ لا في أن يَخدُم، وكم منَّا ينظرُ إلى الآخرينَ وكأنَّهم أشياءُ وُجِدَتْ لينموَ هو على حسابِها، وقد بات هذا الأمرُ، ويا للأسفِ واقعًا مُعاشًا على مختلفِ الصُعُدِ، وكأنّهُ أمرٌ طبيعيٌّ، وكلُّ من سار عكسَهُ اتُّهمَ بالجنونِ أو الجُبْنِ أو التخلُّفِ. كمْ من القادةِ في العالمِ اليومَ، ينظرون إلى الناس نظرَةَ التاجرِ الفاجر، الذي يهتمُّ للربح، وللربحِ فقط، فاذا بالناسِ بل بالأممِ والشعوبِ، تُشرَى وتُباع، تُقتَلُ وتُشرَّدُ، وكأنَّها سلعٌ أو حقولُ تجاربَ تُستَخدمُ، كما الفئرانُ في المختبرات، ليس المُهِمُّ مصيرُها، إنَّما المهمُّ، ماذا تردُّ عليَّ من إنتاجٍ، المهمُّ، أن تنجحَ سياسةٌ رُسِمَتْ او خِطَّةٌ وُضِعَتْ، وألفُ سلامٍ على الاخوَّة وعلى الإنسانية.

أمثولةُ المسيحِ لأهلِ السلطانِ في هذا اليوم، تُعلِّمُهُم كيفَ هو منطِقُ الأشياءِ الحقُّ. كانَ ملوكُ الأرضِ قبلَهُ يأمرون الناسَ كما السادةُ، والناسُ لهم خدَّامٌ بل عبيد. أمَّا معهُ وبعدهُ، فالسيدُ هو الخادم.ُ

والكبيرُ، من عرفَ أن ينظرَ إلى نفسهِ، على أنَّه الأصغرُ في ملكوتِ الله. قلبَ المسيحُ منطِقَ السُّلطةِ كما قلبَ منطقَ التعامُلِ، ومنطقَ الناموسِ والشرائع. ألم يقُلْ لهم بالأمسِ " لقد قيل لكم العينُ بالعينِ والسنُّ بالسنِّ أمَّا أنا فأقولُ من ضربَك على خدِّكَ الأيمنِ فحوِّلْ له الأيسرَ، ايُّ فضلٍ لكَ إن أحببتَ من أحبَّكَ وضربتَ من ضربك. كونوا كاملين كما أنَّ أباكم السماويَّ كاملٌ هو. وأنا، صورةُ أبيكم، أغسِلُ اليومَ أقدامَكم" فهل تفهمون ما أنا صانعه".

قلبَ المسيحُ بفعله هذا، منطقَ الأشياءِ والتعاملِ، ولم يشأ أن تكون أمثولتُه بالكلام، بل بالعمل والحبّ. أرادها واضحةً فاعلةً توقظُ الضمير وتدفع إلى المبادرة بالفعل. عرف صعوبة المهمَّة، فأراد أن يُهيءَ لها، من هم قادرون على القيام بها، لأنَّه كان مقتنعًا وشاعرًا أنَّ خوابي الأمس لا تصلح لخمرةِ اليوم . والعجبُ كلُّ العجبِ، في ما نراهُ اليوم بين الناسِ، لقد غيَّروا خوابي العلمِ والصناعة والتكنولوجيا، وعرفوا أنَّ ما كان بالأمسِ لا يصلح لمعارفِ اليومَ وابتكارتهِ، ولكنهم لم يغيِّروا خوابي الأخلاق والسلوك البشري تجاه الناس، فالظالم بقيَ على ظُلمه والسيِّدُ زادَ في تجبّره وتكبُّره. وكأنَّهم في إصرارهم هذا، أبوا أن يفهموا ما أراده المسيحُ في هذا الخميس العظيم. فلا عجبَ أن يشدِّدَ المسيحُ على سوآله لتلاميذه، "هل تفهمون ما أنا صانعه"؟.

عجبًا من العالم هذا الرافض الحرون، لقد سمع كلمة المسيح تقول، لا تدينوا وما زال يدين، لا تكيلوا وما زال يكيل، وأعجبُ العجبِ أنَّ الناس به يتمثَّلون، وله يصفِّقون، ومن أجله يُقتلون ويَقتلون. وكأنهم سدُّوا آذانهم عن كلام الرب، فلا يسمعون، وإن سمعوا لا يفهمون. كأنَّهم بهذا الموقف المكابر المعاند، يحقّقون نبوءة أشعيا " أعمى عيونَهم وقسَّى قلوبَهم" لأنَّهم أحبّوا مجدَ الناس على مجد الله ". ومجدُ الناس لا يقتضي غسلَ أقدام الناس.

هذا العالم الرافض للحقِّ، وصفه بولس الرسول بقوله : " أظلمَ فهمُهم وتغربوا عن حياة الله لأجل الجهل الذي فيهم وعمى قلوبهم، الذين لفقدهم كلّ حسٍّ، أسلموا أنفسهم إلى العهرِ لارتكاب كلِّ نجاسةٍ بفرطِ الطمع".

لقد قلتُ فيما قلت، أراد المسيحُ أن يفهمَ تلاميذُه وبالتالي سائرُ الناس، واقع الإنسان وعظمته في حسن الممارسةِ، كما أرادهم أن يفهموا واضحا موقف الله الدائم من الناس. لقد كشف لهم سرَّ الإنسان بقدر ما كشف لهم سرَّ الله، وأرادهم أن يفهموا. وقد أظهرتُ في ما سبق ما يتعلق بالإنسان بين إخوته الناس. أمَّا الآن فلنتأمل بما أراد المسيح إظهاره عن حقيقة الله في هذا الخميس العظيم.

"أنا الكبير بينكم" قال المسيح، وأنا أغسل أقدامكم، أنا صورة الله الكاملة، ومن عرفني قد عرف الله، وأنا اغسلُ اقدامكم. أنا أعمل أعمالَ أبي الذي ما كفّ يومًا عن محبَّة الناس، وما كفَّ عن عطائهم، خلقهم وخلق لهم كلّ خيرٍ به ينعمون، طمعوا بخيرهِ وحبّه فرفضوه، وابتعدوا عنه، وهو بحبِّه يستر السوآت ويهبُ الغفران. أنا أعمل وأبي ما زال يعمل ليتمَّ الخلاص لكلِّ بشر ويدخل عالما لا حاجة فيه إلى شمسٍ أو قمرٍ، لأنَّ مجد الله ينيرُه ووجه الحملِ مصباحُه.

أيُّ سرٍ هذا وأيُّ إدراك يحيط به، إله السماء والأرض وخالق الكون الذي به كان كلُّ شيء، وبدونه لم يكن شيء ممَّا كان، يصبح انسانًا ويغسل أقدام الناس. اليسَ لكي يقولَ لنا المسيحُ أن " اللهَ اكبرُ من أن يُدركَ سِرُّه، مهما عمل العقلُ المخلوق على إدراكه. علَّمنا المسيح أن" اللهَ أكبرُ"، وأن الكِبرَ لا بالتسامي والابتعاد والرّفعة، إنّما كِبَرُ الله في غريب منطقه، وأسرار تدبيره. هو الكبير الذي لا يحدُّه زمانٌ ولا مكانٌ، ينزل لِيحصر في زمانٍ ويتقيدَ بمكانٍ، ويأخذَ جسد إنسان ٍ. هو العظيمُ القدوسُ الذي تخدمه أجواقُ الملائكة ينزلُ مُخليًا ذاته من كلِّ عظمةٍ ليغسل أقدامَ بشرٍ بالخطأ جُبلوا وبالخطايا وُلِدوا.

أعادَ المسيح، بتجسُّدِه خبزًا وخمرًا، رأبَ الصدعِ بين المادَّة والروح، بين الجوهر والعرَضِ كي يفيق الماديِّون مِنَ الناس، ويلْتَفِتوا إلى ما هو أسمى وأبقى.

وأعاد الأرض إلى حال ما قبل الانقسام بالخطيئة، حيث غدت تنبتُ للإنسان شوكا وقرطبًا، فإذا بها تُنبِتُ قوتا يحمل في جوهره إمكانيَّة الصيرورة خبًزا للحياة وبابًا للبقاء.

" الله أكبر" من أن يُدركَ ويُعقلَ، لا لأنَّه إلهٌ قدير جبارٌ كبير، متسلطٌ على الخلق يفعل ما يشاء بعباده، يضرب إن شاء ويهدي إن شاء. وليس لأنَّه إله بعيد عن العالم لا يدركه النقص ولا يهتمُّ بالصِّغار ولا بالصغائر، ولا يفكِّر إلا بذاته ولا يَعْقِلُ إلَّا ذاتَه؛ بل لأنَّه إلهٌ، له كلُّ الألوهة والرّفعة والقدسيَّة والقدرة، فترك كلَّ ماله ونزل إنسانًا سويًا يعايشُ البؤسَ، ويحمل الأسقام، ويُحسَبُ ذا برصٍ فيرذُلُه المجتمع كما يرذلُ البناؤون الحجرَ المُهملَ. أليس هذا أبعد من منَال العقل وأكبر؟.

هذا ما أراد المسيح أن يفهمه رسُلُهُ ومَنْ بعدُهُم من الخلق إن كانوا يعقلون.

أراد المسيح أن يفهم رسُلُهُ والناسُ من بعدهم أنَّ الله يُقدِّس تعب الإنسان ويسمو به، إلى أن يدخله حال الألوهة والمجد فيتعلَّم الناس تكريم عمل الناس وجهدهم، فلا يستغلونهم ولا يفتَرونَ عليهم. لا يستبعدونهم، ولا يسخّرونهم. لقد أخذ المسيح تعب الإنسان وجُهدَهُ، أخذ حنطةَ حقلهِ وخمرةَ كرمهِ وجعل منها صورة بقائه بين الناس. خذوا هذا جسدي وأعطاهم الخبزَ، وهذا دمي وأعطاهم الخمرَ... بهذا العطاء الأبديّ، قدَّس المسيح الأشياء، اذ جعلها جسدهُ ودمهُ، بعدما قدّس الإنسانَ حين حلَّ بين الناس إنسانا، وكأنَّ المسيح يقول لقد جبَلَ الله الإنسان بيديه ليعيشَ، فأذلَّ الإنسانُ نفسه بالخطأ والخطيئة، فجئت إنسانا أعيد إلى الإنسان مجدَه. وجبَلْتُمْ أنتم بعرقكم الخبزَ وعصرتم الخمرَ، فجئت أقدس تعبكم لتفهموا أنّ التعب بركةً لا لعنة، وبالعرق عطاء والعطاء خدمةٌ. "فهل تفهمون ما أنا صانعه".

وفي الختام أقف وأقول للمسيحيين اليوم، هل هم قادرون أن يقولوا للعالم الذي يبحث عن مغزى وجوده ويفتش عن طرق الخلاص من واقعه المؤلم، للعالم الغارق في متاهات الضلال مُعتقدًا وتصرُّفًا ومنهجَ حياة، هل يستطيع المسيحيُّ، كلُّ مسيحيّ، أن يقول له بصدقٍ وجرأة كما قال المعلمُ يوم الخميس العظيم : "هل تفهمون يا عوالم الأرضِ ما نحن صانعون"؟.