كُلُّ حَياةٍ خارِجَ لبنانَ غَيرُ مُجدِيَةٍ وَواهِنَةٍ، إذ فيها مُجازَفَةُ العُزوفِ عَنِ البَحثِ عَن مُطلَقٍ يُعطي المِعنى. وَكُلُّ حَياةٍ مَعَ لبنانَ تَجلُبُ مِنَ المُطلَقِ وإلَيهِ كُلِّيَةَ الضَرورَةِ. أيَّةُ مَكانَةٍ، على وَجهِ التَحديدِ، يُمسِكُها الإيمانُ هَذا بالحَياةِ؟ هُنا إشكالِيَّةُ مَن لا يَعرِفُ الإيمانَ بِلبنانَ، إذ يَعتَبِرُ ماهِيَّةَ لبنانَ بالِغَةٌ حَدَّ إهانَةٍ تَستَدعي إعادَةَ الإعتِبارِ. وَكَم مِمَّن يَدَّعونَ أنَّهُم لَبنانيُّونَ يَتبارونَ في إستِنباطِ صَرامَةٍ فاصِلَةٍ بَينَ ما يأخُذونَهُ بِيَسارِهِمِ وَيَحبٍسونَهُ في يَمينِهِمِ: التَكفيرُ بِلبنانَ الَذي يَفرِضونَهُ فَرضاً يُعانِقُ القَلَقَ وَيُضاعِفُهُ... بُلوغاً الى حَدِّ التَضحِيَةِ بِلبنانَ وَقَد أنتَزَعوها مِن سُخطٍ باتَ كُلَّ مِصداقِيَّتِهِمِ.

بِقَدرِ ما في هَذا المَوقِفِ مِن زيفٍ، بِقَدرِ ما الحَياةُ لِلبنانَ وَمَعَهُ عَكسَ ذَلِكَ تَماماً. إنَها حَدَثٌ مُكَرَّسٌ لِثَورَةٍ نادِرَةٍ عَظَمَتُها في إتِّساعِها. وأَيُّ ثَورَةٍ؟ تِلكَ التي تَبغي قَبلَ أيِّ أمرٍ آخَرَ لا كَسبَ عَطفٍ وَرِضى الى إرتِهانِ، ولا إستِغفارَ مَن بِيَدِهِمِ سُلطانَ التَعَسُّفِ وَقوتَ الإستِرحامِ.

لبنانُ الحياةُ إنقِلابٌ على كافَّةِ هَذِهِ المَفاهيمَ في ما هيَ تَدنيسٌ لِماهِيَّةِ الإنسانِ الحُرِّ. وَلَيسَ الإنسانُ مَن فيهِ المُبادَرَةُ لِلتَقَرُّبِ مِن لبنانَ الحَياةِ، بَل لبنانُ الحياةُ أتى الى الإنسانِ لِكَيما يَرفَعُهُ الى مَقامِ هِباتِهِ. هَذا ما لَم يُدرِكهُ كَثيرٌ مِن أولِئَكِ الُلبنانِيِّينَ أنفُسِهِم الَذين نَكَروا ما لبنانَ هوَ وَما بِهِ بُؤمِنُ.

مُبادَرَةُ لبنانَ الحَياةِ هَذِهِ فيها عَظَمَةُ شِفاءٍ مَن جُرِحَ في ماهِيَّتِهِ، وَقيامَةُ مَن إستُشهِدَ لِأَجلَ مُعتَقَدِهِ. أهيَ مِن عَدالَةٍ وَإلَيها؟ قُلّ أكثَرُ: في الحَقيقَةِ، لبنانُ يُصالِحُ العالَمَ بِحياتِهِ. هوَ يُبادِرُ الى المَنبوذينَ والنَكِرَةِ والناكِرينَ، في مُنطَلَقِ تَعبيرٍ عَن ذُروَةِ إدراكٍ.

مِن هُنا لبنانُ الحَياةِ عُرفانٌ بالحَياةِ مَعَ لبنانَ. وَهَذا يَتَطَلَّبُ لا شَعائِرَ عِبادَةٍ تُذرى مَعِ رِيحٍ بَل إعتِرافاً وَقَبولاً لِلشَراكَةِ مَعَ لبنانَ، إذ لا وجودَ إلَّا فيهِ وَبِهِ.

أما قُلتُ أنَّ في ذَلِكَ إنقِلاباً مِن إتِّساعِ ثَورَةٍ؟ فَلأُضِفِ الآنَ أنَّ فيها حَرَكَةً تَصاعُدِيَّةً تَتَرَقَّى لِتَنتَصِرَ عَلى كُلِّ خَطِّ إنحِدارٍ. أجَل! فَمَن يَحيا لبنانَ إنَّما هوَ المُبتَدأُ لِلإقتِناعِ بأنَّ كُلَّ ما في لبنانَ يَكتَمِلُ بِهِ، وأنَّهُ إنطِلاقاً مِن لبنانَ يُبلَغُ فَهمُ ما هوَ وَمَن هوَ.

لبنانُ لَيسَ بِحاجَةٍ لِمَن بالكادِ يَحمِلُ إسمَهُ... لِيَتَنَكَّرَ لَهُ أو حتَّى لِيَخجَلَ بِهِ، في طُقوسِيَّاتٍ مَحكومٍ عَلَيها أن تَبقى بَشَرِيَّةً لا جَدوى مِنها... وَلبنانُ لَيسَ بِحاجَةٍ أصلاً إلَيها.

الرِضى الحُرُّ

ما يُريدُهُ لبنانُ مِمَّن هوَ لَهُ في حَياتِهِ هوَ هَذا الرِضى الصاعِدَ مِن حُرِيَّةٍ. تِلكَ قيمَتُها: نَعَمٌ لِلبنانَ الحَياةِ، نَعَمٌ لِلحَياةِ لبنانَ. وَما مِن عَطِيَّةٍ لِلبنانَ تَفوقُ ذَلِكَ ال"نَعَمَ"، أو تَتَغَلَّبُ عَلَيهِ، أو تَستَبدِلُهُ.

في عالَمٍ مَليءٍ بالإنتِماءاتِ المُتلاحِقَةِ مِن زيفٍ الى زيفٍ، هَذا الرِضى ميزانٌ مُغايرٌ لِمَساراتَ العالَمِ. إنقِلابٌ، قُلنا، ألَيسَ كَذَلِكَ؟ أجَل! فالحَياةُ الَتي هيَ عَمَل دُنيَويٌّ، جَعَلَ مِنها لبنانُ تَقدِمَةَ واقِعٍ.

أَفي لبنانَ الحَياةِ والحَياةُ لبنانُ، بُلوغُ هَذا الرِضى الحُرِّ ذُروَةَ العِبادَةِ؟ أجَل! فَفي التَعَبُّدِ لِلبنانَ بُلوغُ التَحَرُّرِ الحَقيقيِّ لِلحَياةِ، حَيثُ يَغدو لبنانُ مَركَزاً للإِنسانِ، مَشدوداً الى الأَبعَدِ، في عالَمٍ مَوسومٍ بِطَلاسِمَ الفَناءِ والإفناءِ... بِشَذَراتِ المَوتِ.

ألا فَلنَحمِلَ لبنانَ الحَياةَ، لِنُقيمَ مِن جَحيمِ العالَمِ الحَياةَ لبنانَ. إنَّهُ إنجازُنا... حَتَّى النِهايَةِ.