مِن مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ حتَّى القُدسِ الشَريفِ، وَمِنهُما الى عَرشِ اللهِ، لبنانُ مُقَدَّسٌ.

ها الأَحاديثُ النَبَوِيَّةُ تُعليهِ واحِداً مِن جِبالِ الجَنَّةِ الأربَعَةِ، وَواحِداً مِن التي أُسِّسَ عَلَيها البَيتُ الحَرامُ، وَواحِداً مِنَ الأَجبُلِ الَتي تَحمِلُ عَرشَ الجَبَّارِ لِلقَضاءِ الأَخيرِ في يَومِ القيامَةِ.

وَها ياقوتُ الحَمَويُّ، صاحِبُ "لِسانِ العَرَبِ" وَ"تاجُ العَروسِ" يُبرِزُ لبنانَ آتياً مِنَ العَرجِ، يَمُرُّ بِفِلَسطينَ فَيُسَمَّى جَبَلَ الحَمَلِ، وَيَعبُرُ الأُردُنِ فَهوَ جَبَلُ الجَليلَ، وَفي دِمَشقُ يُدعى جَبَلَ سَنيرِ، وَيَتَّصِلُ بإنطاقِيَةَ فَيُسَمَّى جَبَلَ اللُكامِ.

فَكَيفَ لا يَكونُ كِتاباً ما هوَ مَطرَحُ سُجودٍ، ذَلِكَ أنَّ فيهِ رَجاءً لِكُلِّ وَجَعٍ، وَحَقيقَةُ حُلُمٍ تَتَجَسَّدُ لِكُلِّ مُنكَسِرٍ؟ ألَيسَ فيهِ تَستَضيءُ الكَلِمَةُ في الجِراحِ، كَمَن يَتَرقَّبُ في السَماءِ المُستَظِلَّةِ وَجَهَهُ الآخَرَ؟ ألَيسَ فيهِ كُلُّ آخَرَ في حُبٍّ، كَمَن في كُلِّ آخَرَ مَسيحٌ مَصلوبٌ؟.

هيَ تِلكَ أرضُ لبنانَ. أرضُ مَوعِدٍ، مِن قِمَمِ تُرابٍ وَروحٍ؟ قُل أَنَّ شَهادَتَها في ما تَستَودِعُ كُلَّ إنسانٍ مِن عَزاءٍ لِبؤسٍ، وَمِن رَهبَةِ أحِبَّةٍ. مَنهُ تَجيءُ السَماءُ، هُناكَ حَيثُ الوجوهُ مُتَّكِئَةٌ عَلى الضِياءِ.

هيِ تِلكَ طَهارَةُ لبنانَ. كِفايَةُ إلتِماسِ النُورِ في ذاتِهِ، كالبَهاءِ في إلتِماسِهِ النِقاءَ. وَما هَذا الإلتِماسُ إلَّا ظُهوراً في قَلبِ اللهِ، وَتَطَهُّراً بِهِ وَفيهِ، في إنسِكابِ اتِّحادٍ وَرِضاءٍ... وَفيهِ وَبِهِ ذَهابٌ لِلبَقاءِ، إذ لا عُلوَّ أكثَرَ مِن تَجَلِّيهِ، وَلا تَجَلِّيَ أبعَدَ مِن سُطوعِهِ لِروحٍ نَزِلَت عَلَيها النِعمَةُ، فَما مَطرَحُهُ بَعدُ إلَّا الحَضرَةُ الإلَهِيَّةُ في خِدمَةِ البَشَرِيَّةِ وَما إلَيها مِن ضُعفٍ وَتَقوى، مِن مُبتَغى وإلتِزامٍ... مِنها يُطِلُّ اللهُ على ما حَولَهُ وَهوَ مِنهُ، مِن كِفايَتِهِ.

هيِ تِلكَ حَقيقَةُ لبنانَ. هوَ للإِنسانِ وَمِنهُ اليُنبوعُ والمَسعى. حَياةُ الشَوقِ هَذِهِ هيَ إشتياقُ البَشَرِيَّةِ لِسُكنى اللهِ في وَسَطِها، حَيثُ الوجودُ كُلُّهُ إنبِثاقٌ مِنَ الحُرِيَّةِ الأولى. وإذ إستُجلِبَتِ البَشَرِيَّةُ الى الصَلبِ، فِهيَ في لبنانَ سُكناها أبَداً في القِيامَةِ، في أنوارِ مَن دَخَلَ طائِعاً، ذاتَ يومٍ، الى أورشَليمَ القاتِلَةِ... كي يَغدوَ العالَمُ في إشتياقٍ الى فؤادٍ مِنَ المَشرِقِ، لا إمتِداداً لأَمكِنَةِ حُزنٍ تَخلِقُ بَشَراً، وَفي مِعراجٍ الى مَسَرَّةٍ هي تَثبيتاً لَهُ في حَقِّ الحَياةِ. حينَذاكَ تَكونُ أعجوبَتُهُ الأولى وَهيَ إنعِطافُهُ مِن ذُلِّ الإستِقرارِ في صَحارى التُرابِيّاتِ.

رِضى الرَحمَةِ

أَجَل! لبنانُ مَصدَرُ فَرَحِ اللهِ. أيَكفيهِ؟ لا! إذ هوَ مِن سُدرَةُ فَرَحِ اللهِ الدَيّان، فهوِ فَيضُ الرَحمَةِ في مَدارِكَ الخَلقِ. وَفي هَذا إستِنارَةُ القُدسيِّ في ما تَنفَحُهُ مِن تِحريرٍ مِن كُل إنطِواءٍ، وَمِن تَحَرُّرٍ مِن كُلِّ إنكِسارٍ.

أَجَل! في تِلكَ الرِفعَةِ الَتي في لبنانَ وَمِنهُ، يَكتَمِلُ هَيكَلُ اللهِ الحَيِّ في العالَمِ، المُتناسِي نَفَسَهُ وَرادِعِها بِلا خَلاصٍ، وَيَكبُرُ وَيَتَّسِعُ في عَودَةِ المَسيحِ الى العالَمِ.

يا لِهذا الرِضى الطالِعَ مِنَ الشَوقِ الإلَهِيِّ طافِحاً بالرَحمَةِ، الَذي يَبيتُ في البَذلِ المُرتَضيِ للإِستِغفارِعَن مَعصِيَةِ إستِنزافِ لبنانَ صَنيعَةِ الحُبِّ وَنَقيضِ حِراسَةِ الظُلمَةِ.

يا لِلبنانَ الرَحمَنِ. لِنَقُلها: هوَ ذو الرَحمَةِ الشامِلَةِ لِلخَلائِقَ، والَتي لا غايَةَ بَعدَها في الرَحمَةِ. وَما رَحمَتُهُ إلَّا وَساعَةَ كُلِّ شَيءٍ، في عَطفٍ على عِبادِهِ بالإِيجادِ أوَّلاً، وَبالهِدايَةِ الى الإيمانِ تالِياً، وَبالإرتِقاءِ الى ألآخِرَةِ ثالِثاً.

لبنانً الرَحمَنُ. شَدِّد: هوَ المُنعِمُ بِما لا يُتَصَوَّرُ صُدورُ جِنسِهِ مِنَ العِبادِ.