تعاني مخيمات النازحين السوريين في لبنان أوضاعًا بيئية كارثية، حيث تنعدم النظافة وتنتشر مجاري المياه الملوثة ولا سبيل لتأمين المياه الصالحة للشرب، ففي بلد يرزح تحت أزمة اقتصادية خانقة تقوّض القدرة على تأمين مقومات أفضل وتثقل كاهل المستشفيات وتمنع الدواء عن معظم سكانه.

رصد لبنان أول إصابة بالكوليرا مطلع تشرين الأول/أوكتوبر من العام 2022 الماضي، وسجّلت بعدها مئات الإصابات وأعداد لا بأس بها من الوفيات.

وينتقل هذا المرض البكتيري عادة من خلال المياه أو الطعام أومياه الصرف الصحي الملوثة وتصحبه عوارض قد تنتهي بوفاة المصاب.

وبحسب تصريح لوزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال في لبنان فراس الأبيض فإن معظم حالات الكوليرا هي في المخيمات، التي يسكنها نحو مليون سوري لجأوا إلى لبنان على مدار العقد الماضي هربا من الصراع في وطنهم.

يكاد نهر حلبا الذي يمر عبر مخيم القليعات في سهل عكار يعتبر أحد أهم مسببات انتشار الوباء، كما يصفه سكان المخيّم.

فالنهر الذي ينبع من منطقة حلبا ويمر بمحاذاة المخيّم، يحتضن كل أنواع وأشكال الملوّثات.

يقول عبد الرحمن حسين المسؤول عن المخيم: "نفايات المخيّم والصرف الصحّي تنتهي كلها في مجرى النهر الملاصق للخيم"، معتبراً انتشار وباء الكوليرا في المخيّم نتيجة لتلوث النهر.

كما ويشكو عبد الرحمان المقيم في المخيم من قلّة الحمامات، إذ هناك حمّام واحد لكل 10 خيم، وحول توفّر مياه الشرب يقول: "هناك بئر مياه خاص بالمخيّم الذي يضم 250 عائلة جميعها تؤمّن حاجتها من المياه من هذا البئر ولهذا نعاني من نقص كبير بالمياه المخصصة للاستعمال اليومي الذي يشمل التنظيف وغسل الملابس، وهي مياه ملوثة تخرج من البئر موحلة وغير صافية".

يتأسّف أيضا على أنه لا سبيل للتخلص من نفايات المخيّم إلا برميها في مجرى النهر كما يبدي استغرابه لغياب شبكات تصريف المياه ومياه الصرف الصحي، مضيفاً: "هل يعقل أن لا يتم الاهتمام بتصريف المياه؟ مع كل تساقط للأمطار تغرق الخيم بالمياه وهي مشكلة نواجهها دائماً، النظافة في المخيم معدومة، النفايات منتشرة ومياه الشرب ملوّثة، نحن نضطر لشراء مياه الشرب من الباعة ولا نعلم مصدرها ومدى صلاحيتها".

لجين إبنة عبد الرحمن ذات الأعوام الخمسة أصيبت بالوباء، ما اضطره للإقتراض لتغطية تكاليف علاجها.

من جهتها، تقول خديجة، حول إصابة ابنتها بالوباء: "النفايات والأوساخ منتشرة في كل أرجاء المخيّم، حتى أرضه الموحلة غير صالحة للعب الأطفال، عانت ابنتي من إسهال حاد، وتابعت حالتها في المركز الصحي المجاور إلا أنني واجهت صعوبة في تأمين العلاج المناسب".

ويتحدث "أبو محمد" عن ذات الظروف: "نقوم بشراء مياه الشرب، أما مياه الاستعمال اليومي فنقوم بنقلها بالسطول من مسافات بعيدة قد تصل لنحو كيلومتر، وهي غير متوفّرة دائماً".

وحول انتشار وباء الكوليرا في المخيّم يقول: "أصيب نحو 23 شخصاً من سكان المخيّم بالوباء، الوضع هنا مأساوي".

يجمع سكان المخيّم على الشكوى من الوضع البيئي الكارثي الذي يعيشون فيه، فلا مياه الاستعمال اليومي نظيفة، ولا هي متوفرة دائماً، ولا أحد يضمن صلاحية مياه الشرب، الحمامات قليلة ولا تكفي سكان المخيّم، وأما النهر المحاذي فقد تحوّل مكباً للنفايات ومصبّاً للمياه الآسنة.

عوامل تجعل من مخيم القليعات، كما غيره من المخيمات التي تواجه أوضاعاً مشابهة، بيئة صالحة لانتشار الأوبئة، ومنها الكوليرا الذي بدأ انتشاره في مخيّمات شمال لبنان.

وحسب المسؤول في مخيم القليعات الأستاذ بلال محمد أحمد، فإن عدد الحالات التي سجّلت في المخيم بلغ 55 حالة، في مساحة طول 2000م وعرض 1500م فقط.

وأشار أحمد إلى أن نسبة الأدوية التي وزعت من قبل الصليب الأحمر اللبناني بلغت حوالي 30 بالمئة وكانت كافية.

وزارة الصحّة اللبنانيّة تحوّلت إلى خليّة نحل فور الإعلان عن إصابات الكوليرا في سوريا استعدادًا لمحاصرة الوباء قبل التفشّي الخطير في لبنان.

رئيسة مصلحة الطّبّ الوقائي في وزارة الصحّة العامة الدكتورة عاتكة برّي، قالت في اتصال هاتفي أنّ الوزارة توقّعت وصول الكوليرا إلى لبنان بعد انتشاره قبل شهريْن في سوريا وحركة دخول النازحين إلى لبنان حتّمت نقل هذا المرض الجرثومي، فسارعت الوزارة الى تنبيه المستشفيات في المناطق الحدوديّة إلى ذلك الأمر، وتوصيتها بضرورة إجراء اختبار الكوليرا لأي مريض يُصاب بإسهال مائي حادّ، مشيرةً إلى أنَّ الإصابة الأولى التي سجّلها لبنان كانت لرجلٍ خمسينيّ من الجنسيّة السوريّة كان قد وصل إلى لبنان وأُدخل مستشفى عبدلله الراسي الحكومي.

ويظهر الجدول عينة من التغريدات التي رصدها موقع Data for crisis من على منصات التواصل الإجتماعي، حيث تبين عدد المرات التي تناول بها الناس في لبنان موضوع الصحة في أول فترة لرصد الكوليرا في لبنان أي من 11/12/2022 حتى 4/11/2023، حيث بلغت عدد المنشورات المرصودة حوالي 50 تغريدة تقريبا، ما يشير إلى ان الأزمة الصحية المستجدة قد شغلت حيّزاً مهماً من اهتمامات الناس.

أما الرسم البياني أعلاه فيظهر نسب التفاعل والنشر حول موضوع الصحة. حيث برزت النسبة الأكبر في شهر كانون الاول أي عند رصد أولى حالات الكوليرا في لبنان ما يشير الى إهتمام الناس بالتعرف على معلومات عن هذا المرض ومشاركة مشاعرهم والبحث عن سبل الوقاية من المرض المستجد.

في هذا الإطار أشارت الدكتورة برّي إلى أنّ وضع مخيّمات النازحين سيئ للغاية، وعمليّة التحقق من سلامتها ونظافتها ومراقبة البنى التّحتيّة فيها وحفر الصّرف الصّحي، ليست من مهام وزارة الصّحة على الإطلاق، فالمسؤؤليّة تعود إلى المنظّمات الدوليّة المعنيّة بشؤون النازحين واليونيسف: "هذا الأمر أغضب الوزير وأوعز إلى هذه المنظمات في تحمّل مسؤوليتها، فنحن لا نستطيع أن ندخل المخيّمات لإصلاح الصّرف الصّحي والمياه فيها، وزارتنا تعنى بالقضايا الصحيّة للمواطنين اللبنانيين على امتداد الأراضي اللبنانية."

وعن حال المخيّمات تأسّفت الدكتورة برّي على الوضع الكارثي فيها، خصوصًا في ما يتعلّق بالصّرف الصّحي ومياه الشّرب والبنى التّحتيّة: "بعد التّحقق من مكان إقامة المصاب الأول بالكوليرا، تبيّن لنا أنّه يسكن في مخيّم في الشّمال ويشرب من مياه ملوّثة بالكوليرا، وتختلط بالصّرف الصّحي، وتطوف إلى خارج المخيّم، لتصل إلى الأراضي الزراعيّة المجاورة". وأضافت أنَّ الحلّ الأوّلي والمستعجل هو سلامة المياه في المخيّمات والنّظافة لأنّ تلوّثها يعيدنا إلى سيناريو الكوليرا، ومن ثمَّ نبحث في سلامة الغذاء، مشيرةً إلى أنَّ الأمر لا يقتصر على المخيّمات فحسب، بل على المناطق اللبنانية جميعها، فقد رُصد اختلاط لمياه الشرب بالصّرف الصّحي في مناطق ومدن عديدة وعلى مصلحة المياه ووزارة الطاقة التحرّك.

ولدى السؤال عن تأمين الدواء والعلاج للمصابين اللبنانيين والسوريين بالكوليرا، أكّدت برّي أنَّ الوزارة ومنظّمة الصّحة العالميّة في تعاونٍ وثيق ومؤازرة دائمة في ما خصّ العلاجات، فقد أمّنت المنظّمة كميّات وفيرة من أدوية الأطفال لعلاج الكوليرا والمضادات الحيوية والأمصال. وإلى جانب ذلك، تجنّدت فرق ميدانيّة في المستشفيات الرئيسة في كلّ محافظة للتأكّد من جهوزيّتها لاستقبال مصابي الكوليرا أو تأهيلها وتدريب الطواقم الطبيّة لمكافحة المرض.

وبحسب موقع يونيسيف، يُقدِّر الباحثون أن 4 ملايين إصابة بالكوليرا تقع سنوياً وتتسبب بما يصل إلى 143,000 وفاة، وتُعتبر هذه التقديرات متحفظة. ويتحمل الأطفال، لا سيما دون سن الخامسة، الوطأة الأشد لهذا المرض. كما أن الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية هم أكثر عرضة للإصابة بأعراض شديدة فيما لو أصيبوا بالمرض. ورغم ذلك إن مرض الكوليرا هو مرض يمكن منعه وعلاجه سهل.

وإن كانت منظمة الصحة العالمية تعتبر مخيمات اللاجئين "بيئة مثالية معرضة للخطر"، بالنظر إلى عدم توفر المياه النظيفة ولا الصرف الصحي، فما هي الإجراءات والتدابير التي يمكن تطبيقها للحد من احتمال عودة الوباء مستقبلاً؟.

اعداد: فالنتين نسر، محمد الناطور، ريم الشريف، سارة أبو مراد، سجى عوض