يشتعل ​السودان​ اليوم على الطريقة الليبيّة اليمَنيّة كحلقة جديدة من حلقات ​الربيع العربي​ ولو اختلفت الدوافع والأسباب. هو الذي كان يعيش كنارٍ تحت رماد الخلافات السياسية، انتقل صراعه الى حلَبة الإشتباكات المسلّحة بصواريخ دوليّة. يبدو للكثيرين أنه صراع بين جنرالين سودانيّين، لكن الخلاف والأهداف أعمق بكثير. وما بين الجيش السوداني النظامي وقوات التدخل السريع بقيادة محمد دقلو المعروف بـ"حميدتي"، صراع طويل الأمد يدفع ثمنه وحده الشعب السوداني. القائد الشرعي ​عبد الفتاح البرهان​ المدعوم من الولايات المتحدة، وحميدتي المدعوم من روسيا والصين، دوّلا ازمة السودان ووضعاها على خارطة الصراعات العالمية، فنقلا الأنظار من اوروبا الملتهبة الى افريقيا الحارّة... والحرب بدأت!.

نظرة واحدة الى كنوز هذه البلاد كافية لمعرفة أسباب التسابق الدولي لمساعدة الأطراف المتنازعة في السودان. فهذه البلاد الغنيّة بالمعادن والثروات الطبيعية وخاصة ​الذهب​ واليورانيوم هي قبلة أنظار الدول اللاهثة وراء هذه المعادن الأولية لدعم صناعاتها.

ذهب، خام الحديد، الفضّة والزنك فضلاً عن الرمال السوداء، العقيق، الملح والتالك، إضافة الى أكبر مخزون للعالم من اليورانيوم ينعم به إقليم دارفور، معادن تحتاجها الصين بالدرجة الأولى... ومن هنا، وبسبب غناه الطبيعي، بدأ الغرب بتفكيكه وشغله بحرب أهليّة خوفاً من ان يصبح السودان دولة قوية في العالم العربي.

وعلى الرغم من انغماسها في حرب ضدّ اوكرانيا وكل القوى الغربية والأميركية الداعمة لها، غير ان روسيا لم تُسقط من حساباتها ثروات افريقيا، فجولات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الدول الإفريقية وخاصة التي راحت تطرد دول الغرب مع كافة أدوات استعمارها مثل دولة "مالي"، زيارات لم تهدأ في السنوات الماضية، تهدف الى برنامج توسّع روسي في القارة السمراء، فأعلن عن رغبة بلاده بنشر قوات فاغنر العسكرية وتلبية البلاد في احتياجاتها من شراء للأسلحة، منتظراً موافقة الخرطوم شرعياً في شأن بناء قاعدة بحرية روسية على شاطئ البحر الأحمر.

السودان للقواعد الروسية والجارة جيبوتي للقواعد الأميركية... واستفاقت القارة السمراء قلقة على مستقبلها بعد تهافت البرامج العسكرية الدولية على السودان.

تنقلنا الذاكرة اليوم الى الصراع في اليمن والهدف الذي حققته الولايات المتحدة منه، والذي تمثل في السيطرة على شريان مضيق باب المندب الإستراتيجي، الذي يعتبر الباب الرئيسي لأوروبا، بحيث قال الخبراء، "من يسيطر على باب المندب يسيطر على مصير اوروبا بكاملها".

فتنة الجغرافيا لم تفارق "باب المندب"، فعاد مرة جديدة من خلال الصراع على السودان وموارده الطبيعية اليوم، من خلال روسيا، التي ترسم في أحد عوامل توجهها البحري عموماً وفي افريقيا والسودان خصوصاً، برامج للسيطرة على منطقة القرن الإفريقي التي هي من أهم المناطق الإستراتيجية المطلّة على الممرات المائية، وقربها من "الباب" الشهير الذي يعبره يومياً ما لا يقل عن 10 % من حركة نقل البضائع في العالم.

وبعد أسابيع قليلة من بداية النزاع الدموي في السودان، ظهر العنوان العريض، هو صراع الكبار على الخطط والمشاريع.

مصالح الدول الكبرى اجتمعت في أرض الذهب، الذي يشكل 44 % من إجمالي صادرات البلاد. ولا تعجبنّ لماذا انطلق الصراع في الخرطوم اليوم، خصوصاً بعد الحديث في كواليس مطابخ السياسة العالميّة عن عملة جديدة تلغي الدولار والعملات الأخرى لمصلحة الذهب والـbitcoin.

كل العيون شاخصة على هذا البلد الغني، ليس اليوم، إنما منذ زمن. فالخليج عمّق مشاركته في الدولة منذ الإطاحة ب​عمر البشير​، واشترى مساحات كبيرة لإنتاج المحاصيل الزراعية والأعلاف الحيوانية. وبالأمس وافقت دولة الإمارات على استثمار بقيمة ستة مليارات دولار فيه يتضمن بناء ميناء جديد على شاطئ البحر الأحمر. وتركيا العائدة بقوة الى مسرح الدول الكبرى، فهمت لعبة الصراع، وذهبت لوضع يدها، قبل غيرها، على ثروات البلاد. فاستأجرت أراضٍ زارعية سودانيّة بمساحات شاسعة ولمدة 99 عاما وفي مناطق متنوّعة ومتعدّدة. ثم عقدت اتفاقية تنقيب عن النفط وعقد إنشاء مصنع نسيج، واتفاقية تسليم إدارة الجزيرة السودانيّة في البحر الأحمر الى تركيا لإعادة اعمارها والإستثمار فيها في عقود طويلة الأمد، الأمر الذي أدّى الى تحالف استثماري ضدّها، تألّف من مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية. فهل تنجح تركيا في طموحها الإستثماري في السودان؟.

ميدانياً، يتسابق القتال مع البرامج الإستثمارية. حيث فشلت كل محاولات التهدئة حتى اليوم، وهذه البقعة من العالم المقبلة على تقسيم "جنوب وشمال" بحسب المراقبين في واشنطن، قسّم العرب الى محورين: مصر مع جيش البرهان النظامي، والسعودية والإمارات مع قائد قوات الدعم السريع الملقب بـ"حميدتي".

الكل يتصارع، الجيش ضدّ الحركات المسلّحة في دارفور والنيل الأزرق، وظاهرة "جاياك أبو طيرة" المناصر للجيش النظامي السوداني. قتال دموي شرس، لن يوصل البلاد الا الى المزيد من حرب شوراع لن تنتهي بسهولة.

عالمياً، الإتحاد الأوروبي دقّ ناقوس الخطر بشأن الصراع الدائر، تزامناً مع تحذيرات لبرنامج الأغذية العالمي من أزمة إنسانية في شرق إفريقيا بسبب الاضطرابات الأهليّة... وبداية النزوح ومواسم الهجرة واللاجئين الواصلين الى الجنوب، الموصوف أصلاً بفقر الحال وأرض المجاعة، سيجعل من السودان مادة للنقاش على طاولة مجلس الأمن في الأيام المقبلة... من دون حلول منتظرة!.

الأمم المتحدة-نيويورك