في الظاهر، تتسارع وتيرة التحركات المرتبطة مبدئيًا بالاستحقاق الرئاسي، لتكسر "رتابة" فرضها الجمود المسيطر على الملف منذ أسابيع طويلة، على وقع حراكين داخليّ وخارجيّ لافتَين، لم يُعرَف بوضوح ما إذا كانا مترابطَين، تمامًا كما لم يُعرَف حتى الآن مدى قدرتهما على التأثير على مواقف الأفرقاء التي يبدو أنّها تراوح مكانها، في ظلّ "تصلّب" كلّ فريق، ورفضه أيّ نقاش بطرح الفريق الآخر، أقلّه في المرحلة الحاليّة.

فعلى المستوى الداخلي، خطف نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الأنظار من خلال "الحركة" التي يقوم بها، والتي أخذت شكل جولة "استكشافية" شملت جميع الفرقاء، بمن فيهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، فضلاً عن رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، الذي لا يزال محور انقسام، بين فريق "الثنائي" الذي يرفض الحديث بـ"خطة بديلة" دعمه، والخصوم الذين يعتبرون أنّ ورقته "احترقت"، وحظوظه "معدومة".

وفي وقتٍ لم تظهر بوضوح آفاق "حركة" بو صعب هذه، التي تتزامن أيضًا مع مساعٍ لبعض قوى المعارضة للتفاهم على مرشح "موحّد"، وسط "انكفاء معبّر" لرئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، بدا الخارج في "قلب" الاستحقاق، فالفرنسيّون لم يفرملوا اندفاعتهم رغم سهام الانتقادات التي طالتهم، والأميركيون دخلوا على الخط للمرّة الأولى، بموقف واضح وصريح دعا لرئيس "متحرّر من الفساد، وقادر على توحيد البلاد".

وبين هذا وذاك، عاد السفير السعودي وليد البخاري إلى بيروت، لتتصدّر جولته على مختلف الأفرقاء، ولا سيما المصنّفين "أصدقاء"، مع تسجيل البعض "تعديلاً في النبرة" بالحدّ الأدنى، فهل غيّرت الرياض موقفها من الاستحقاق الرئاسي، على وقع تقدّم الاتفاق السعودي الإيراني على أكثر من مستوى؟ وهل يمكن القول بناءً على كلّ ما تقدّم، أنّ "الخرق" الرئاسي بات أقرب من أيّ وقت مضى، إن سارت الرياح كما تشتهي السفن؟!.

بالنسبة إلى الحراك الداخلي، يقول العارفون إنّ كلّ ما سُجّل الأسبوع المنصرم لا يوحي عمليًا بأيّ تغيير "نوعي" من شأنه تقريب موعد الاستحقاق الرئاسي، وإنهاء التجاذب الحاصل حوله، فرغم الإيجابية التي اكتنفت "حركة" بو صعب التي لم ترقَ بعد لمستوى "المبادرة"، فإنّ أيّ "ترجمة لها" تبدو بعيدة المنال، وهو ما تجلّى في العديد من المواقف التي صدرت، والتي أكدت على خيار "المراوحة"، ربما بانتظار "كلمة سرّ" لم تنضج معطياتها.

وإذا كان نائب رئيس مجلس النواب اكتفى بوصف اللقاءات التي عقدها بـ"الاستكشافية"، مشدّدًا على أنّ ما يقوم به هو عبارة عن "مبادرة شخصية"، لا انطلاقًا من صفته "الحزبية"، ولكن استنادًا إلى موقعه كنائب لرئيس مجلس النواب، فإنّ ثمّة من يعتقد أنّها تأتي تمهيدًا لفتح حوار "جدّي" بين الأفرقاء، وهي الخطوة التي "يباركها" رئيس البرلمان، بعدما كانت "فكرته" من الأساس، لكنه اصطدم بـ"فيتو" بعض القوى المسيحية تحديدًا.

إلا أنّ ظروف هذا الحوار غير ناضجة، بحسب ما يقول العارفون، باعتبار أنّ المواقف لا تزال على حالها، ولعلّ الحديث الصحافي الأخير لرئيس مجلس النواب يعزّز هذا الاعتقاد، بعدما أعلن صراحةً أنه "لا يعترف" سوى بـ"الخطة ألف" في الاستحقاق الرئاسي، ما قرأ فيه كثيرون تمسّكًا بمقولة "فرنجية أو الفراغ" التي اتُهِم "حزب الله" بالترويج لها، فكان أن أظهر الأخير "ليونة" لم تنعكس في كلام رئيس المجلس الذي جاء أكثر وضوحًا.

وفيما يظهر "التصلّب" نفسه على قوى المعارضة، التي لا تزال عاجزة عن الاتفاق على اسم واحد يستطيع مواجهة فرنجية، رغم الجهود المضنية التي يبذلها النائب غسان سكاف في هذا الإطار، يبدو "انكفاء" النائب السابق وليد جنبلاط معبّرًا، بعدما رمى الكرة في "ملعب الكبار" في آخر تصريحاته، وسط شائعات حول "خلافات" بينه وبين نجله تيمور، وحتى داخل كتلة "اللقاء الديمقراطي"، على وقع التكهنات حول "انعطافة مرتقبة".

وسط هذا الجمود المسيطر على الحراك الداخلي رغم كلّ المحاولات لتحريك الاستحقاق، بقي الخارج قبلة أنظار الكثيرين، حيث تحوّل الشغل الشاغل للمعنيّين بالانتخابات الرئاسية، "تحليل" كلّ حركة يقوم بها هذا السفير، أو كلّ كلمة ينطق بها ذاك، في ظلّ تزايد الحديث عن "تناقضات" بين موقف الجانب الفرنسي من جهة، وهو المتهَم بـ"التسويق" لسليمان فرنجية، والجانبين السعودي والأميركي، الأثر دبلوماسية، من جهة ثانية.

في هذا السياق، لفت الانتباه الموقف الأول من نوعه، الذي صدر على لسان المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، الذي دعا قادة لبنان إلى "وضع مصالح بلدهم وشعبهم فوق مصالحهم وطموحاتهم الشخصية"، والإسراع لانتخاب رئيس من أجل إنقاذ الاقتصاد من أزمته، علمًا أنّ الصفات التي منحها للرئيس العتيد، "المتحرّر من الفساد والقادر على توحيد البلاد"، فسّرها كثيرون بمنحى "مناقض" للمبادرة الفرنسية.

وفي الإطار نفسه، جاءت جولة السفير السعودي لتطرح الكثير من علامات الاستفهام، فهو لم يُعطِ "أصدقاءه" ما كانوا يشتهونه لجهة رفع "فيتو صريح" في وجه رئيس تيار "المردة"، بل إنّ العارفين لاحظوا في خطابه "تعديلاً في النبرة"، وتخليًا عن مواصفات سبق أن أطلقها حول ضرورة انتخاب رئيس "سيادي وإصلاحي"، مكتفيًا بالدعوة إلى "اتفاق" اللبنانيين فيما بينهم على رئيس يستطيع إنهاء حالة الشغور، ما فسّره الداعمون لفرنجية إيجابًا.

وفي حين اختلفت "قراءات" دلالات كلام البخاري، وما إذا كانت تمهّد لتغيير ما، فإنّ الثابت كما يقول العارفون، بعيدًا عن "التناقض" الذي يحلو للبعض تصويره في الموقف الدولي، يبقى أنّ القوى الدولية تتقاطع بمجملها عند فكرة واحدة، وهي أنّ الحل يجب أن ينطلق من الداخل أولاً وأخيرًا، ما يتطلب من الجميع إعطاء حيّز أكبر للحراك الداخلي "المتواضع"، بعيدًا عن الرهانات عن متغيّر من هنا ومستجدّ من هناك!.