حَياةُ لبنان صَلبٌ مُتَتَابَعٌ، بَدأ مُنذُ تَكوينِهِ. وَما كانَ عابِراً. أبِدايَةُ الصَلبِ بِهِ؟ كَيفَ لا، والحَياةُ مَعَ لبنانَ يَستَحيلُ إدراكُها مُجَرَّدَ ظاهِرَةٍ تَتَجَرَّدُ مِن أيِّ مَعنىً. ولبنانُ كُلَّما واجَهَ الصَلبَ كمَسألَةٍ مَن مَسائِلَ المَوتِ لا يَشعُرُ بِمَحدودِيَّةِ الوجودِ فَحَسبَ بَل يَستَنبِطُ مِنَ المَوتِ إنتِصاراً لِلحَياةِ. إنتِصاراً مُحَرِّراً مِن قِوى الشَرِّ.

الكِياناتُ السياسِيَّةُ اليَومَ باتَت تُدرِكُ أنَّ كُلَّ حَياةٍ لَها سَتَنتَهيَ بِشَكلٍ مِن أشكالِ المَوت الَذي يَلتَهِمُها مِن داخِلَ قَبلَ الخارِجِ. وَهيَ دأبَت إبتِكارَ التَعايُشِ مَعَ هَذِهِ الفِكرَةِ كَحَدَثٍ حَيَويٍّ لَها أبعَدُ مِن مُجَرَّدِ التَدَرُّبِ عَلى تَقَبُّلِ ظواهِرَ الإفناءِ والفَناءِ. وَهيَ، وإن راحَت تَتَنَصَّلُ تِباعاً مِنَ الفَلسَفَةِ القائِمَةِ عَلى إعتِبارِ نَهايَتَها جِزءاً مِن نِظامِ الكَونِ، كَما مِن إدِّعاءِ أنَّ الفِكرَ قِوامُهُ تَعَلُّمُ كَيفيَّةِ المَوتِ، سَكَرَت في إبتِداعِ عَبَثٍ مِيتافيزيقيٍّ يَجعَلُ مِن مَوتِها مَصدَرَ إلهامٍ لِقُوَّةٍ دَفعٍ لَها تُصالِحُها مَعَ حَتمِيَّتِهِ.

بَينَ الوجودِ واللاوجودِ باتَت تِلكَ الكِياناتُ السياسِيَّةُ اليَومَ تَتأرجَحُ وَراءَ المَعرِفَةِ، لِتَستَكينَ في الخَوفِ لا مِن نِهايَتِها بَل لاوجودِها الَذي يَكشِفُ لَها عَن نَفسِهِ.

لبنانُ لا يَخافُ. جَوهَرُهُ يُنتِجُ بَعدَ كُلِّ صَلبٍ عُيوناً أكثَرَ إنفِتاحاً عَلى الوجودِ، لَيستَ لِمُصالَحَةٍ مَعَ المَوتِ بَل لِلتَحَرُّرِ مِنَ اليَأسِ الداهِمِ مِن عَبَثِيَّتِهِ. بِذَلِكَ يُعيدُ لبنانُ المَسألَةَ الى جَوهَرِها بَعدَما إنحَرَفَت بِعَبَثِيَّاتِ الكِياناتِ السِياسِيَّةِ المُتأرجِحَةِ في الضَياعِ الجَليِّ. قُلتُ الضَياعَ؟ الأصَحُّ: في الإلحادِ. في حينِ أنَّ لبنانَ مؤمِنٌ، مُنذُ تَكوينِهِ، وَفي إيمانِهِ جُذوَةُ دَيمومَتِهِ: هوَ كَيانُ أحياءَ، وَعَلاقَتُهُ بِهِم تَرفَعُهُم الى الخُلودِ. بِمِعنىً آخَرَ، مِن إيمانِ لبنانَ يَنبَثِقُ رَجاءٌ يَقودُ الى جَلاءِ الأبَدِيِّ.

وَما أبَدِيَّةُ لبنانَ إلّا بُلوغُ مَقامِ الحَياةِ الحَقيقيَّةِ الَتي تُحَوِّلُ الزَمَنَ وَتَجعَلُهُ: زَمَنَ لبنانَ. وَمِن دونِ الصَلبِ، لا مَجالَ للإقرارِ بِلُبنانِيَّةِ الزَمَنِ. وَفي هَذِهِ المَسألَةِ، حَيثُ القيامَةُ إنبِعاثٌ مِن رَمادٍ، مُذ ولِدَت في لبنانَ إسطورَةُ الفينيقِ، عُمقُ تَجَذُّرٍ لا يُقاسُ بِعِلمِ مَحضٍ. عَلى نَحوٍ أوضَحَ: مِن هَذا الإختِبارِ الأنتروبولوجيِّ، يِبلُغُ لبنانُ الزَمَنَ الآتيَ وَيَلمُسُهُ... وَما كَينونَةٌ سياسيَّةٌ قادِرَةٌ بَعدُ عَلى إلغاءِ لبنانَ في ما هوَ، وَهيَ الواقِفَةُ مُتَرَنِّحَةً بَينَ الفَناءِ والجَزَعِ مِنهُ.

في هَذا أبَدِيَّتُهُ، وَفي تِلكَ شَقاؤها.

التَحقيقُ... بِجَسَدِهِ

هَل لبنانُ مَوجودٌ فِعلاً؟ لا جَوابَ عَلى هَذا السُؤالِ إلَّا عَلى نورِ سِرِّ صَلبِ لبنانَ وَقيامَتِهِ. في هَذِهِ الثِقَةِ المُحَقَّقَةِ بِرِسالَتِها كَفِعلٍ سامٍ، في جَسَدٍ مُدمىً، دَليلُ الأمانَةِ عَلى وَعدِ لبنانَ لِذاتِهِ وَلِلكِياناتِ السياسِيَّةِ المُلحِدَةِ... وَمِنها مَن تَعَقَّبَهُ لإهلاكِهِ عُنوَةً.

أجَل! يُثقِلُ الإنحِلالُ المُتَدَرِّجُ، وَقَد تَرَسَّخَ ظاهِرَةً عالَمِيَّةً، الكِياناتِ السياسِيَّةِ بِرُّمَتِها، فَيُزيدُها إضطِراباً أمامَ فِكرَةِ إضمِحلالِها الكُليِّ، لِتَؤولَ الى الإسرافِ في شَهَواتِ إمتِلاكِ حتَّى نَزعاتِ المَوجوداتِ البَشَرِيَّةِ . لَكِنَّ لبنانَ، الَذي ألِفَ أِشكالَ الإنحِلالاتِ وأثقالَ مأساوِيَّاتِها، يَعرِفُ كَيفَ يَطرَحُ المَوتَ جانِباً لِيُكَوِّنَ هوَ، بِجَسَدِهِ المُحَقَّقِ، الإحاطَةَ باللامُتَناهيَ.

أجَل! لبنانُ، بِجَسَدِهِ المُحَقَّقِ، يُحَوِّلُ المَوتَ مِن تَهديدٍ مَصيرِيٍّ الى مَسألَةِ خَلاصٍ.

أجَل! لبنانُ، بِجَسَدِهِ المُحَقَّقِ، فيهِ يَحظى التاريخُ بِمَلجَئِهِ لِيَغدوَ مُلِحَّاً وَلا يَقَعَ عُرضَةً لِخَطَرَينِ: الوقوعَ في الفَردانِيَّةِ، وإرجاءَ واقِعَ الزَمَنِ الُلبنانِيِّ الى الحَياةِ. كِلاهُما يَحرُمانِ التاريخَ مِن دينامِيَّتِهِ.

لبنانُ الكائِنُ سَيَنتَصِرُ لِلأبَدِيَّةِ. هَذِهِ مُصالَحَةُ التاريخِ مَعَ حاضِرِهِ!.