يَطِلُّ علينا أحدُ الأعمى الذي نقرأُ فيه ما فَعَلَه الرّبُّ يسوع مع الذي وُلِدَ أعمى، حيثُ "تَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى[1]". أَيّ إنَّهُ صنعَ له مُقلتَين، أو بِمعنى أدَقّ خَلقَ له مُقلتَين.

إنَّ فعلَ الخَلْقِ في هذا المِضمارِ يُطلَقُ على الخالِق حَصرًا. وبِهذا نَكونُ قد وَصَلنا إلى جَوهَرِ المَوضوعِ الذي يَنقُلُنا مباشَرَةً إلى سِفرِ التَكوينِ عندما "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّة[2]". فاللهُ الذي خلقَ الإنسانَ هو نفسُه الذي خَلَقَ مُقلتَين للأَعمى، أيّ الرّبّ يسوع المسيح، والذي يَعني اسمُهُ: "اللهُ يُخلِّص".

هذا الأمرُ لم يُدهش اليهودَ فحَسْب، بل الشعوبَ بِرمَّتِها، وما زالَت بعضها إلى هذا اليومِ تَعتَبرُ أنَّ هذا الأمرَ مُستحيلٌ، ومِنهُم مَن تُكَفِّرُه.

تُرى لماذا هذا الرَّفض؟ الربُّ أتى ليرفعنا إليه. مِمّا لا شكَّ فيه أنَّ فكرةَ التَجُسُّدِ الإِلهيِّ يَتَخَطّى أَمرُها إِدراكَ العقولِ البَشَريَّةِ المَخلوقَة. مِن هنا نَرى أَنَّه واجِبٌ الدخول في سِرِّ هذا التدبيرِ الإلهيّ مِن خلالِ قِراءَةِ نتائجَ هذا التَجُسُّدِ، ومَفاعيلَ صَيرورَةِ الله إِنسانًا.

فلنَطرَحِ الأسئلةَ التالِيَة: ماذا لَو لَم يَتَجسَّدِ الله؟ ماذا لو لَم يُصلَبْ؟ ماذا لو لم يَقُمْ مِن بَين الأموات؟ ماذا لو لم يَرفَعْنا معهُ إلى السماوات؟ ماذا لو لم يُرسِلْ إلينا الروحَ القُدس؟ ماذا لو بقيَ في سماواتِهِ واكتَفى بإرسالِ الأنبياء إِلَينا؟.

الجوابُ بكلِّ بساطَة هو: لكانَت علاقتُنا مع اللهِ عِلاقَةَ شرائِعَ وقوانين، وليس علاقَةَ مَحبَّةٍ وبَذلًا للذاتِ وفِداءً. وَلَكُنّا مُجَرَّد مَخلوقاتٍ بَشريَّة، وليس أَبناءً للهِ بالنعمَة. وعن أَيَّةِ محبَّةٍ إلهيَّةٍ وأبَوِيَّةٍ كُنّا سنتكلَّمُ، ونختَبِرُ، ونَعيش؟

فَهل يوجدُ عظَمَةٌ أكثَر مِن التي عَظَّمَنا اللهُ بِها!؟ لقَد شارَكَنا بَشَرِيَّتَنا، ليُميتَ فيها كلَّ ضُعفٍ وَخطيئَة، َولِكَي يَرفَعَنا إليه.

لنَطرَحْ سؤالًا آخر: هل يستحيلُ على الله أن يَتجسَّدَ ويبقى إلهًا؟ الجواب كَلّا، بِكُلِّ تأكيد. فلا شَيءٌ يَستحيلُ عليهِ، لأَنَّهُ كُلِيُّ القُدرَة.

إنَّ رَفْضَ أُلوهِيَّةِ المَسيح يَنبعُ مِن مَحدوديَّةِ عَقلِ الإنسانِ المَخلوق. وإِنْ قُلنا، لا يُمكنُ للهِ المُنَزَّهِ عَنِ المادَةِ أَن يَتَجَسَّدَ لأنَّه بذلكَ يَتَنَجَّس، وَلا يُمكنُ للخالِقِ أن يَتَّحِدَ بالمخلوق، لَبَقينا في بحثِ الفلاسفَةِ، الذين قَبلَ المسيح، وَقَد رحَلوا عن هذه الدنيا دونَ أن يَلقَوا جَوابًا عَلى ما كانت تبحثُ نفوسُهم عنهُ. فالنَفسُ البشريّة تبحثُ عَن خالقِها لكي ترتاحَ فيه، وتَقتَني السَلامَ العُلويّ، الذي يُزيلُ عَنها كُلَّ اضطرابٍ أرضِيٍّ وسُفلِيّ.

طبعًا لا نَنسى أنَّه لا يستطيعُ أيُّ شَيءٍ أن يُدَنِّسَ الله، لأنَّه بكلِّ بَساطَة هُو الله! فَهل رَأى أحدٌ أنَّ الظُلمةَ تُلغي النورَ أَو تُؤَثِّرُ عليه؟ بالطَبعِ لا، فَالعكسُ هو الصَحيح.

كذلك إذا قُلنا إِنَّ تَأنُّسَ اۡللهِ هو تشريكٌ لوحدانِيَّتِه، نكونُ قد طَبَّقنا على اللهِ مَحدوديَّةَ الفِكرِ البَشَريّ! فعندما قال الربُّ للسامِرِيَّة بِأَنَّه هو المسيحُ الذي يَنتظرونَه: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ[3]" لم يَقُلْ ذلكَ عَبَثًا، بل تَأكيدًا على الخلاصِ المُنتَظَر، الذي هو مُزمِعٌ أن يُتَمِّمَه.

كذلكَ عندما سألَ رئيسُ كهنةِ اليهود يَسوعَ: "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ»؟ أجابَه الرّبُّ: "أَنَا هُوَ[4]". فما كان من رئيسِ الكَهنةِ إِلّا أَن مَزَّقَ ثيابَه! فَهل نماثِلُه؟ أو نُزايِدُ على الله؟.

وإذا اعتبرَ أحدٌ أنَّ قَولَ المسيحِ بِأنَّه هو والآبُ واحدٌ[5] يَضربُ وحدانيَّةَ اللهِ عرضَ الحائِط، يكونُ بذلك لم يَفهَمْ بَعدُ تدبيرَ اللهِ الخَلاصِيّ للبشر. لأنَّ المسيحيَّةَ تتكلّمُ على إِلَهٍ واحدٍ في الجَوهَرِ وَليسَ على ثَلاثَة آلهَةٍ إِطلاقًا.

لهذا قال الرّب لفيلبس: "الذي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ"، هذا معناه أنّه واحد معه في الجوهر، وليسَ كما يَحلو للبعضِ أن يقولَ غيرَ ذلك، كما أَنَّ أقوالَ يسوعَ وأعمالَه الفَريدَة تَشهَدُ لَه.

وآياتٌ أُخَرُ كثيرةٌ تُظهِرُ وَحدانيَّةَ الله. فَعلى سبيلِ المِثال لا الحَصْرِ نَذكُر: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ[6]" و"الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا[7]".

هذا أيضًا ما شَهِدَ عليه بولسُ الرسولُ، الذي كانَ فَرّيسيًّا ابنَ فَرّيسيٍ، فَقالَ: "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ[8]".

لنَعُدِ الآنَ إلى يسوعَ والأعمى، ونَتَوَقَّفْ قَليلًا عِندَ الحِوارِ الذي دارَ بَينَهما. فقد سَألَ يسوعُ الأعمى: "أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ"؟ فأجابَه: "مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ"؟ فَقَالَ لَهُ يَسوعُ: "قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالذي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ"!. فَقَالَ: "أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ".

هذا الحِوارُ مُوَجَّهٌ أيضًا لِكُلِّ إنسان، في كلِّ زمانٍ ومكان. والإجابةُ على سؤالِ يسوعَ يأتي ضمنَ المَحبَّة الإِلهيَّة اللامُتناهِيَة للبَشر.

لقد صُعِقَ اليهودُ عندما قالَ لهمُ الربّ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ[9]".

وهنا نقولُ لَكُم: لا تُضَيِّعوا وقتَكم سُدًى في البَحثِ عن صِحَّةِ الأناجيلِ وَدِقَّتِها، لأنَّ أصالَتَها مُثَبَّتَةٌ بشكلٍ قاطِعٍ منذُ القرونِ الأُولى للمسيحيَّة ضمنَ مَخطوطاتٍ محفوظَةٍ إلى الآن.

خِتامًا، الشجَرةُ تُعرَفُ مِن ثِمارِها، وَكذلكَ ما قامَ بهِ الربُّ يسوع بذاتِ قُوَّتِهِ وَسُلطانِه، مِن أَشفِيَةٍ، وإِقامَةٍ للمَوتى، فَإنَّهُ لا مَثيلَ لَه.

أَعطنا يا ربُّ أن يَقعَ بُرقَعُ المَحدوديَّة عن عيونِنا وفكرِنا وذهنِنا، فنُبصرَ أَنَّكَ أتيتَ إلينا لتَرفعَنا إِليك، ونُدرِكَ أنَّ جابِلَ الطينِ للأَعمى هُوَ نفسُهُ "الصانِعُ السَماءَ والأَرضَ والبحرَ وكلَّ ما فيها[10]"، فنَنضمَّ إلى عَديدِ تلاميذِكَ الأطهارِ في مَسيرةِ تبشيرِهم، ونعملَ بِما قُلتَهُ لَهُم: "اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ[11]".

إلى الرّبِّ نَطلُب.

[1]. يوحنا 6:9

[2]. تكوين 7:2

[3]. يوحنّا 26:4

[4]. مَرقس 61:14-62

[5]. يوحنّا 30:10

[6]. يوحنّا 1:1

[7]. يوحنّا 14:1

[8].1 تيموثاوس 3: 16

[9]. يوحنّا 58:8

[10].أعمال 4: 24

[11]. متّى 19:28-20