"نعرب عن تضامننا مع لبنان ونحث كافة الأطراف اللبنانية للتحاور لانتخاب رئيس جمهورية يرضي طموحات اللبنانيين وانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته".

هي عبارات "مقتضبة" عن لبنان تضمّنها البيان الختامي للقمة العربية، الذي اصطلح على تسميته بـ"إعلان جدة"، لتؤكد أنّ لبنان ليس في سلّم أولويات القادة العرب، خلافًا لكلّ الرهانات "المُبالَغ بها" التي سبقت التئام القمّة المصنّفة "تاريخية واستثنائية"، والتي عقدت تحت عنوان "تصفير المشاكل" في الإقليم.

وإذا كان الرئيس السوري بشار الأسد، "العائد" إلى جامعة الدول العربية بعد "عزلة طويلة"، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي شكّل حضوره "مفاجأة" للكثير من القادة قبل غيرهم، اعتُبِرا "نجمي" قمة جدة بلا منازع، فإنّ لبنان بدا "حاضرًا غائبًا" على خطّها، هو الذي تمثّل برئيس حكومة تصريف الأعمال، في ظلّ فراغ يهدّد كلّ المواقع.

بيد أنّ هذا الواقع "المتردّي" لم يفرض نفسه على "أجندة" القمّة العربية، حتى إن الملف اللبناني الذي جاء في المرتبة السادسة في بيانها الختامي، بعد القضية الفلسطينية وأوضاع السودان وسوريا واليمن، وربما الأخيرة، باعتبار أنّ سائر البنود جاءت عامّة بلا تخصيص، "غُيّب" عن كلمات معظم القادة المشاركين، فهل هو "فتور عربي" متجدّد إزاء لبنان؟!.

في المبدأ، يمكن القول إن مخرجات القمة العربية، لبنانيًا، جاءت أقلّ من سقف التوقعات "الطموحة" التي وُضِعت لها، بعدما ذهب كثيرون لحدّ توقع أن يفرز القادة المجتمعون في جدّة حلاً متكاملاً للأزمة اللبنانية، أسوةً بسياسة "التهدئة" التي أرادت تكريسها، وترجمة لأجواء "التفاهمات" التي عكستها بين السعودية من جهة، وإيران وسوريا من جهة ثانية، لكنّ المشكلة كما يقول العارفون، تكمن في "التضخيم" غير الواقعي ولا المنطقي الذي سبق القمّة.

استنادًا إلى ما تقدّم، لا يمكن اعتبار ما حصل في قمّة جدّة انعكاسًا لـ"فتور عربي متجدّد" إزاء لبنان، كما حاول البعض الإيحاء، وفق ما يقول العارفون، ولا سيما أنّ التحركات العربية مستمرّة، لكنّه يعكس في مكان ما "التناغم العربي الدولي" حول مقاربة الأزمة اللبنانية، ولا سيما الاستحقاق الرئاسي، لجهة رمي الكرة في ملعب القادة اللبنانيين، الذين تقع على عاتقهم "حصرًا" مسؤولية انتخاب رئيس جديد للجمهورية قادر على إخراج البلاد من أزمتها.

وإذا كان صحيحًا أنّ البيان الختامي للقمّة ثبّت أنّ لبنان "ليس أولوية" الدول العربية، في ظلّ ملفات "ساخنة" لم يكن أحد يتوقع أن يتقدّم عليها لبنان، من القضية الفلسطينية المركزية، إلى الأزمة السودانية المشتعلة على وقع "حرب الجنرالين"، مرورًا بملفي سوريا واليمن المزمنين، لكنّه رغم ذلك حمل بين طيّاته رسالة أساسيّة عبر الدعوة إلى "حوار"، اصطدم في الآونة الأخيرة بالكثير من الفيتوهات والتحفظات والاعتراضات.

بمعنى آخر، فإنّ "رسالة" القمّة العربية للبنان جاءت واضحة لا تحتمل اللبس، فالحلّ يجب أن ينطلق من الداخل اللبناني بالدرجة الأولى، عبر الحوار بين اللبنانيين أنفسهم من أجل التفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات جميع اللبنانيين، من دون انتظار "فرض" هذا الرئيس من جانب هذه الدولة أو تلك، أو توقع أن تقوم الجامعة العربية مثلاً بهذا الدور نيابة عن القادة اللبنانيين، سواء بسبب تقاعسهم، أو نتيجة تبايناتهم التي لا تنتهي.

لا يعني ما تقدّم أنّ المناخ الإيجابي الذي أفرزته قمة جدة لن يكون له انعكاس "مباشر" على الملف اللبناني، ولو تطلّب بعض الوقت وفق ما يقول العارفون، لكن هذه الإيجابية هي "رهن" بما يقرّره اللبنانيون أنفسهم، بعيدًا عن التشدّد الذي يبدونه في مواقفهم، فالمطلوب "استثمار" جو الوفاق العربي والإقليمي، من التفاهم السعودي الإيراني، إلى التفاهم السعودي السوري الذي أثمر عودة دمشق إلى الجامعة العربية، وهو تطور يُبنى عليه بطبيعة الحال.

لكنّ الخشية الكبرى تبقى في "التفسيرات المضادة" لهذه المستجدات بين الأفرقاء في لبنان، بين مؤيدي رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية الذين يرون في القمة العربية، التي "دفنت" مرحلة ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي"، بمثابة "ضوء أخضر" لفرنجية للمضيّ إلى الأمام، فيما يرى خصومه أنّ القمة "أجهضت" حظوظه، بدعوتها للحوار والتفاهم، وتأكيدها في الوقت نفسه على "وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربي".

رغم كلّ ما سبق، يقول العارفون إنّ "الرهانات" على مرحلة ما بعد القمة العربية قد تكون واقعية ومنطقيّة، شرط ألا تقع هي الأخرى في "فخّ" التضخيم والمبالغة، فلبنان لن يكون متروكًا، والزخم العربي حوله سيتواصل في المرحلة المقبلة، وسط توقعات باجتماع "خماسي" جديد للدول المعنيّة بالشأن اللبناني، لكنّه "زخم" سيحتاج بطبيعة الحال إلى مواكبة محلية وداخلية، تُثار الكثير من الشكوك حول مدى توافرها.

في النتيجة، قد لا يكون "مُبالَغًا به" القول إنّ أمل اللبنانيين بالقمة العربية "خاب"، ربما لأنّ التوقعات زادت عن حدّها، وربما لأنّ الجامعة ارتأت "الحياد" في قمّة تعمّدت أن تكون "وفاقية بامتياز"، بعيدًا عن كل ما يمكن "التشويش" عليها. لكنّ الرسالة تبقى واحدة وثابتة: على اللبنانيين المبادرة للحلّ، والابتعاد عن كلّ تشدّد أو تصلّب، فمتى تصل إلى المعنيّين بها، ليتلقّفوها، ويفتحوا عندها فقط باب الحلّ، إن وُجد؟!.