لبنانُ صالَحَ الوجودَ بِمَوتِهِ، لِأنَّهُ مُتَصالِحٌ مَعَ ذاتِهِ. بالواقِعِ، كَيفَ يُمكِنُ لِوِطَنٍ يَموتُ أن يَبقى حَيَّاً؟ في الذُروَةِ، يُظهِرُ لبنانُ نَفسَهُ في لَحظَةٍ هيَ أشَدُّ لَحَظاتِ إنسانِيَّتِهِ، بالأَلَمِ المُبرِحِ الَذي هوَ مُعاناةٌ حَقيقيَّةٌ وَمَوتٌ حَقيقيٌّ، فَيُحَوِّل تِلكَ الَلحظَةِ الرَهيبَةِ مِن مِحنَةٍ مُدَمِّرَةٍ إلى غَمرٍ تأسيسيٍّ بإمتيازٍ.

قَد يَبدو في هَذِهِ الَلحظَةِ، غَرابَةٌ، لَكِنَّها لَيسَت كَذَلِكَ، إذ هيَ لَيسَت تَرادُفاً تَفضيلِيَّاً لِخاصِيَّةٍ مُكَبِّلَةٍ لِذاتِها. بَل لَحظَةً لإنبِعاثٍ... مِن أجلِ. لَحظَةً تَتَخَطَّى أناها الى تَشارُكِيَّةِ خَلاصٍ... مِن أجلِ. هَكَذا يَتأكَّدُ جَليَّاً كَيفَ يَتَجلَّى لبنانُ الناهِضُ مِنَ المَوتِ، لا كَظاهِرَةٍ فِكرِيَّةٍ فَحَسبَ، إذ كَثيرٌ أولَئِكَ الَذينَ ماتوا مِن أجلِ فِكرِهِم. لَكِنَّ مَوتَ لبنانَ، إذ هوَ لَيسَ نِهايَةً بَل بِدايَةً جَديدَةً، يُصبِحُ التاريخَ الشامِلَ لِلحَياةِ المُنتَصِرَةِ عَلى المَوتِ.

مَن الى زَوالٍ، لَيسَ لبنانُ: بَل مَن أغلَقَ نَفسَهُ وأزهَقَها في مَهالِكَ الأنا، وإمتَنَعَ عَن مؤانَسَةِ إعتِلاناتِ لبنانَ هَذِهِ. وَلِلتأكيدِ: الجَحيمُ هوَ نِهايَةُ مَن يَطوي ذاتَهُ في أناهُ، وَهوَ يأتيهِ مِن ذاتِهِ. أمّا آيَةُ لبنانَ مِن فَوقٍ، فَهيَ ذاتُهُ الَتي... مِن أجلِ.

بِمِعنىً آخَرَ، لبنانُ اللامُتناهي يَغورُ في المُتناهي، لِيَطلِعَ مِنهُ في تَصالُحٍ مَعَ الجَوهَرِ المُطلَقِ. أفي موتِهِ وإنتِصارِهِ عَلى المَوتِ، مُصالَحَةُ اللامُتَناهيَ مَعَ المُتَناهيَ؟ بَل ثَورَة اللامُتَناهيَ... مِن أجلِ المُتَناهيَ. فيها، وَمَعَها، وَبِها، التاريخُ لا سيرَةُ سُكونٍ، لا مَسيرَةُ الحَدِّ الأقصى لِلفَناءِ، بَل يَقينُ اللانِهايَةِ. وَفي هَذا اليَقينِ بالذاتِ لا عَبَثٌ وَلا عُزلَةٌ. وَمِن دونِهِ، يُصبِحُ الوجودُ مُصادَفَةً... أيّ نَقيضَ نَفسِهِ.

وَيَبقي أنَّ أصعَبَ مُلاقاةٍ لِثَورَةِ لبنانَ هَذِهِ، هي في إستِنباطِ البَعضِ لِأوهامَ بِها يَدعَمونَ وجودَهُمُ بِخُرافاتِ لاوَعي. أمّا لبنانُ، فَما آمَنَ إلّا بِحَقيقَتِهِ التي مِن فَوقَ، وَتَوَّجَها بِخَيالِهِ، وَهوَ نِذرُ تِلكَ الحَقيقَةِ. مِن هَذا النِذرِ: طائِرُ الفينيكسِ، رَمزُهُ، وَصِنو إسمِهِ، وَلَهَبُهُ.

مِنَ الفِردَوسِ خُيَلاؤهُ، وَلِأجلِ الفِردَوسِ إنطِلاقُ جَناحَيهِ.

مِنَ المَسكونَةِ مَهبِطُ طُمأنينَتِهِ، وَلِأجلِ المَسكونَةِ تَوَهُّجُهُ.

مِن غَدائِرَ شَمسِ لبنانَ يُتَوِّجُ نَفَسَهُ، وَلِأجلِ رَهبَةِ تَجَلِّيها تَقَبُّلُهُ.

المُلتَهِبُ مِن دونِ إحتِراقٍ

ما يَنبَثِقُ مِنَ الخَليقَةِ، إلى رَمادِ الخَليقَةِ عَودَتُهُ. أمَّا هوَ الفينيكسُ، وَقَد شاهَدَ آلامَ البَشَرِ وَنِهايَتَهُمُ، فَيَشتَعِلُ إلتِهاباً عَلى أعلى غُصنِ أرزَةٍ مِن لبنانَ، تُعانِقُ الفِردَوسَ، هيَ مَذبَحُهُ: يلتهب مُشارِكاً المَسكونَةَ آلامَها... وَلا يَحتَرِقُ. يَغدو رَماداً، وَلا يَحتَرِقُ. يَموتُ، وَلا يَحتَرِقُ. وَمَعَ إشراقِ شَمسِ الَيومِ الثالِثِ يَنهَضُ جَديداً لِنَفسِهِ، وَمُجَدِّداً الخَليقَةَ لِنَفسِها.

وَما قوتُهُ إلَّا بَخورَ أرزِ لبنانَ وَعنبَرَهُ.

وَما غايَتُهُ إلَّا الوجودَ وَجَوهَرَهُ.

وَما تَوَثُّبُهُ إلّا لِغَلَبَةِ الفَجيعَةِ.

سِواهُ يَتَهافَتُ عَلى العَناصِرَ، يَحصاها، يُصارِعُ لِيِتِمَلَّكَها طَرائِدَ... وَيَخافُ مَن يَبتَغيهِ عَدُوَّاً فَيَسلِبَ مُقتَناهُ. أمَّا هوَ فَلا يَخافُ إنذالَ مَمالِكَ مِن تُرابٍ يَبتَلِعُها الرَمادُ، وَلا يَسطو عَلى مَن إلى إنحِلالٍ مَصيرُهُ مَهما عَلَت قِبَبُ أبراجِهِ، وَلا يَنقَضُّ عَلى المُتَلَطِّيَ وَراءَ أسوارٍ يُعليها لِوِحشَتِهِ.

في نَشيدِ بولاقَ لِلإلَهِ رَع "أنَّهُ يَدنو بِجمالِهِ اللامِعِ مِن فينيقيا-لبنانَ مَحفوفاً بالآلِهَةِ." أمَّا آباءُ الكَنيسَةِ مِن تِرتُليانوسَ وإكليمَندُسَ الى إبيفانُسَ فَإتَّخَذوهُ رَمزاً لقيامَةِ المَسيحِ، وآخَرونَ شاهِداً لا يُدحَضُ عَلى وِلادَتِهِ مِن عَذراءَ.

ألُبنانُ-الفينيكسُ تِلكَ الكَينونَةِ المُثلى؟.

لا هوَ مَوتٌ. وَهوَ لَيسَ لِلمَوتِ. هوَ الضَحِيَّةُ-التَضحِيَةُ... لِأجلِ الكَينونَةِ.