واقعياً، اقام حزب الله مناورة عسكرية في الجنوب، دعا اليها الجميع ووسائل الاعلام لتعميم "فائدتها" على كل دول العالم وليس فقط في لبنان. خيالياً، تعرض الحزب لضربات معنوية ودبلوماسية واقتصادية موجعة، وتم قمعه من قبل السلطات وتقلص نفوذه بشكل كبير.

بين الواقع والخيال فارق كبير، وقد تؤيد الحزب او تعارضه بشدة، ولكن هذا لا ينفي ان الواقع لا يمكن تحويره او تغييره. رسائل بالجملة وجّهها الحزب الى الجميع داخل الحدود الجغرافية اللبنانية وخارجها، وكلها مفادها ان الحصار الاقتصادي والمالي الذي استهدفه منذ اكثر من 3 سنوات، لم يؤثر سوى على باقي اللبنانيين وعلى لبنان ولم يؤد الى نقص في الشعبية ولا في اعداد مؤيديه. ومن الرسائل ايضاً ان القوة العسكرية له لم تتراجع، لا بل نجح في مواكبة متطلبات الحروب، وبات من الضليعين في "حروب الدرون" التي اثبتت اهميتها في الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا. اما من بين الرسائل السياسية، فإن البارز هو ارتياحه لوضعه وعدم استعجاله في ركوب قطار الحلّ اذا لم يكن راضياً عنه، وانّه متأكد من انّ محاورته باتت الحجر الاساس في ايّ مشروع للحل، والا ستبقى الامور على حالها.

صحيح ان الحزب اراد ايصال وجهة نظر الى الاسرائيليين لضرورة عدم الدخول في مغامرات غير محسوبة، وقد ادت المناورة الغاية منها في الشق الاسرائيلي، فكانت رداً على المناورة التي اجرتها القوات الاسرائيلية قبل ايام، والاهم ان الرد اتى ايضاً ضمن المناورات من خلال محاكاة الدخول الى مستوطنات، فيما كانت المناورة الاسرائيلية تحاكي امكان دخول مناطق لبنانية محاذية للحدود الجنوبية وفي ذلك دليل واضح على الرغبة في الابقاء على التوازن في ميزان المواجهة.

اما على الصعيد السياسي واللبناني، فرغبة الحزب واضحة في ابلاغ من يعنيهم الامر انه غير مقيد او محرج، فمن يقوم بمثل هذه المناورات ويدعو الى تغطيتها، لا يمكن القول عنه انه "مزروك"، لان من يجد نفسه في موقف حرج يحاول اعادة التموضع والبقاء خارج دائرة الاضواء لفترة قبل ان يحاول العودة بقوة. ارتياح الحزب مردّه الى علمه ان السلطات اللبنانية غير قادرة على مواجهته اولاً، وان الكلام الذي صدر عن رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي هو اقصى ما يمكن بلوغه في هذا المجال، وهو اقرب الى "النأي بالنفس" عن الدخول في مواجهة معه على اي صعيد كان. والارتياح مردّه ايضاً الى الانفتاح الاوروبي (تحديداً الفرنسي) عليه والذي يتعامل معه بحكم موضوعيّة "الامر الواقع" وهو ما اعتمده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ العام 2020 وحتى اليوم، ناهيك عن التقارب السعودي-الايراني الذي انعكس ايجاباً على المقاربة السعوديّة للبنان والحزب بطبيعة الحال، والتي بدأت تتبلور شيئاً فشيئاً بطريقة ايجابية عليه، الذي لم يعد يهاجم المملكة ولا يرى فيها السّيئات التي كانت تحتلّ خطاباته ومواقفه خلال الفترة الماضية. وما عزز "ثقة" الحزب في هذا السياق، ردود الفعل الخجولة التي صدرت حتى من الدول الغربيّة على المناورة التي قام بها، والتي لم تأخذ الحجم الذي كانت تأخذه عادة، فأتت كحد ادنى لمراعاة الرأي العام.

الواقع يشير الى ان الحزب لا يزال محافظاً على حضوره وقوّته، ولم تجعله السنوات الماضية اقلّ حضوراً وتأثيراً على القرارات اللبنانيّة الاساسيّة، وان القول بانتخاب رئيس يضمن تقليص دور الحزب هو كلام يفتقر الى الدّقة والصدقيّة، لا بل انه اقرب الى... الخيال، وشتّان ما بين الواقع والخيال.