"أنظروا في الدولة الفلانيّة كيف تطوروا ووصلوا الى الفضاء، وفي لبنان نرجع الى الخلف، نعيش في زمن الرجعيّة، ونمنع "المايوه" على شاطىء صيدا". هكذا قيل من قبل العديد ممن قدّموا رؤيتهم للخلاف حول لباس البحر في صيدا، فساهم هؤلاء بتضييع لبّ المشكلة، فما جرى لا علاقة له بالتطور والتقدم، ولا التخلف والرجعية، بل هو محصور حصراً بأمرين: غياب الانتماء الوطني، وصعوبة تقبّل الآخر.

لو كانت المشكلة بالتطوّر والرجعية، فالتطور الإنساني حمل فكرة ارتداء الناس للملابس والإنسان الأول كان يسير عارياً، لذلك فالمسألة ليست هنا، والنقاش فيها من هذا الباب هو ابتعاد عن التوصيف الدقيق، ففي لبنان يغيب شعور الانتماء الى "الوطن" فيظل أسير المناطق والطوائف، فتُغلق الأبواب امام "الآخرين"، في كل المناطق، وبصور مختلفة.

منذ ثلاث سنوات تقريباً، قامت قيامة البعض في عربصاليم الجنوبية بسبب "السباحة بالشورت"، ولو حصل اختلاف يومها على توصيف اللباس بين "الشورت" او "المايوه". لا يُفسد هذا الخلاف المعنى الحقيقي لما حصل، ويومها كان البيان الصادر عن "الأهالي" المنشور على صفحة "أخبار عربصاليم" معبّراً للغاية عن المعنى العميق لأزمة "القبول" بالآخرين، فقال البيان: "نرجو من الضيوف الكرام مراعاة الضوابط الإجتماعية والدينية في البلدة وعدم إصطحاب المشروبات الكحوليّة والإلتفات لموضوع اللباس، لأن حريتهم الشخصية التي نحترم تتعارض مع عاداتنا وأعرافنا، خصوصًا في هذه الأرض التي وطأتها اقدام المجاهدين، وارتوت بدماء الشهداء".

ارتوت أرض عربصاليم بدماء الشهداء لكي يعيش اللبنانيون بحريّة، دون أن يخضعوا لمحتل، في التفكير والتصرّف، لا لكي تُحرّم هذه الأرض المحررة، التي هي ملك عام بشكل عام، على أبنائها اللبنانيين. أظهر ذلك البيان يومها كيف أن أبناء "المنطقة" ينتمون لمنطقتهم لا للوطن ككلّ، الذي يضم طوائف ومذاهب وأفكار وتقاليد ولباس، ويعتبرون أنها منطقة خاصة، تستقبل زواراً عليهم واجب احترام العادات والأعراف، فكان التعامل مع المنطقة، كمنزل خاص يمكن لصاحبه أن يستقبل من يشاء ويطرد من يشاء. هكذا تعامل مشايخ صيدا مع البحر في المدينة، وهكذا يتعامل بعض أبناء المناطق المسيحيّة مع مظاهر الحجاب أيضاً.

ليست المشكلة هنا بالذكوريّة حصراً، فالطرح لا يتعلق فقط بالمرأة ولباسها، فما حصل في عربصاليم وحتى في صيدا كان ليحصل نفسه لو "قُبض" على شباب يشربون الكحول مثلا، والنسوة في صيدا مثلاً عبّرن بصراحة عن رأيهنّ الرافض لما يسمونه "ثقافة المايوه"، وليست المشكلة بطائفة أو مذهب دون آخر، ومن الظلم بمكان إلباس الطائفة السنّية لباس التشدد والتدين، مع تقديم صكّ براءة لأبناء باقي المجتمعات أو الطوائف، فالمشكلة ليست دينيّة بقدر ما هي كما ذكرنا سابقاً، تتعلق بقبول الآخرين.

تغيب عن مشايخ صيدا الذين انتفضوا بوجه اللباس، ولم يتحركوا مثلاً دفاعاً عن نظافة شاطئ المدينة العام، صفة الانتماء للوطن وتقبّل كل أبنائه، كذلك بالنسبة للهاتفين الذين نزلوا الى البحر للتأكيد على الموقف هذا، وأيضاً قد ينطبق هذا النقص على بعض الذين تجمّعوا للدفاع عن حق المرأة بلبس "المايوه" لانها امرأة، وعلى الذين تحركوا من باب كره الدين والحجاب.

ما حصل في عربصاليم وصيدا يحصل في مناطق أخرى ضد المحجّبات، على ثلوج كسروان، وبحر جبيل والبترون، وما بعدهما، وما قبلهما أيضاً، ففي بيروت "التي تضمّ كل طوائف البلد" يحصل، في أحد مسابح العاصمة تُمنع الأم المحجّبة من دخول المسبح للجلوس على الطاولة فقط، وفي مسابح اخرى يصبح البحر العام محرّماً على المحجّبة بسبب حجابها، وفي مسابح في خلدة، يُمنع على المحجّبة التواجد على طاولة قرب المسبح.

كل هذا يحصل في كل مكان، بصور مختلفة قد لا تكون بحدّة شيخ صيدا الذي كاد يتعرض للمرأة وزوجها جسدياً، لكنّه يحصل في بلد تُفقد فيه ثقافة الانتماء للوطن، ويصعب فيه تقبّل الآخرين، فيتمسك كل شخص بدائرته الضيّقة التي لا يملكها، ويُنصّب نفسه ملكاً، شيخاً، آمراً ناهياً، ضارباً بعرض الحائط، مشاعر الآخر، حقوقه، لبنانيته وانسانيته، وحتى أمنه النفسي والجسدي.

تقبل الآخر ليس سلّة فواكه نختار منها ما نشتهيه، فلا يمكن أن أختار دعم المحجّبة في الحصول على كامل حقوقها، في كل مكان على الاراضي اللبنانيّة، ولا أدعم غير المحجّبة، والعكس تماماً، تقبّل الآخر يعني أن ننظر الى بعضنا كمواطنين لبنانيين يتساوون بالحقوق والواجبات، ونتعامل على هذا الأساس في الشارع والعمل والشاطئ العام والأملاك العامة.