لم تستطع اللجنة الخاصة المعنية بإنهاء الاستعمار، التي تأسست عام 1960 في الأمم المتحدة، من تحرير المليوني نسمة المتبقّية في سبعة عشر إقليماً في العالم. وما زال 750 مليونَ نسمة، الذين تحرروا سياسياً، يعانون من القيود والوصاية والانتداب الاقتصادي، يعني استعماراً تحت مسميات أخرى، في ظلّ قيود صارمة ومجحفة.

ما يحصل اليوم في بعض الدول الأفريقية من طرد لفرنسا، أمّ المستعمرين في افريقيا، دليل قاطع على ان الشعوب لم تعد تنتظر قرارات المنظمة الدوليّة، كي تحرّر ثرواتها ومواردها من هيمنة الدول الأوروبية التي بدأت بغزو افريقيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولا تزال تستثمر خيرات هذه البلاد حتى اليوم؛ تلك البلاد التي، استعمرت 93 % من افريقيا، مستعينةً بطابور من الأشخاص لغسل أدمغة السكان المتعددي الديانات. والنتيجةُ استغلالُ اغنى المواقع على الأرض...

ليست الولايات المتحدة الوحيدة المهيمنة في العالم، فربما هي الأقلّ سلطويّة وتعنيفاً من الدول الأوروبية السبع، التي لا تزال تستغل خيرات القارة السمراء حتى اليوم. فكيف بإمكان هذه الدول ان تقول انها تحررت من فرنسا (على سبيل المثال لا الحصر)، ومصارفها المركزية ما تزال خاضعة بنسبة 85 % لوزير الرقابة الماليّة الفرنسي، وتدفع الضرائب سنوياً من خلال اتفاق استعماري. والذين يخالفون هذه الاتفاقات من القادة الأفارقة، يصبح مصيرهم ضحايا لانقلابات عسكريّة. أمّا الذين يطيعون الأوامر فيعيشون حياة رغدٍ بمباركة "أمّهم الحنون".

بعد الحرب العالمية الثانية، شجّعت كل من اميركا وروسيا الأفارقة على التحرُّر، ليس إيماناً بالقضايا الوطنية، إنما لرسم خرائط جديدة لهما للنفوذ في العالم. ومنذ ذلك الحين، بدا واضحاً ان عوامل عدم الاستقرار والصراعات القبليّة، وظواهر الانقلابات العسكريّة والتخلّف الاجتماعي والاقتصادي، سببها النفط والذهب والمعادن التي تمتاز بها الدول الأفريقية. وإذا أردنا ان نذكر عدد عمليات استغلال اوروبا للموارد الطبيعية الأفريقية، فاللائحة لا تنتهي... حتى أتت ظاهرة بعض الدول الخليجيّة التي سارعت، بعد انحسار وباء كورونا، الى تقديم المعونات وبرامج الاستثمار، وإغراء قادة الأفارقة بالمال؛ ظاهرها استثماري وباطنها استغلال جديد بطعم التّمر.

بعد كورونا، تذكر العالم بأسره افريقيا. سارع الرئيس الأميركي جو بايدن الى استرضاء قادة القارة السمراء، فنظّم لهم قمّة في شهر كانون الثاني 2022 في واشنطن، فقدّم دعماً بمئة مليار دولار تعزيزاً لأمن الدول الأفريقية ودعم الإنماء فيها، ووعد بزيارة تشمل مختلف الدول. فهل ينجح بايدن ويعوّض استهتار الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي تجاهل، ربما عن غير قصد، أهمية الاستثمار في افريقيا، ولم يقم بزيارة واحدة الى هذه القارة. ترامب ليس المسؤول الوحيد عن تراجع حضور الولايات المتحدة في افريقيا، فسلَفُه الرئيس باراك اوباما قام بثلاث جولات، وقد لاقى في بعض الدول اعتراضات شديدة، وحرقاً للعلم الأميركي على خلفيات كثيرة منها دعمه للطائرات الأميركية التي قتلت مئات المدنيين في جنوب افريقيا، واعتراضاً على سياسة الولايات المتحدة في الخارج، وصولاً، وليس آخراً، إلى الانحياز لإسرائيل في القضية الفلسطينية.

من الواضح ان الولايات المتحدة أصبحت خارج السور الأفريقي لمصلحة الصين وروسيا اليوم. اما فرنسا التي سارعت بدورها للمحافظة على ما تبقى من هيمنة لها، فقام رئيسها بجولة في القارة في آذار من هذا العام، بهدف تقليص الخسائر الفرنسية ومحاولة إعادة الانتشار، لكنه وجد ان النفوذ الفرنسي، الأكبر أوروبياً، انهار، ويبدو أنّ استرداده مستبعدٌ في ظل التعاون الصيني والروسي الجديد في القارة.

تهيأ للرئيس الفرنسي ان جولته في غرب القارة قد تساعده على ترميم موقع وحضور فرنسا فيها، لكن الرياح جرت بعكس ما تمناه الإليزيه. فالعقل السياسي الأفريقي قد تغيّر من مطيع الى شريك، ولم يعد بإمكان الأفارقة في بعض الدول ان تعتبر فرنسا صديقة لهم، وأصبحت دول شمال افريقيا في موقع المنازع لفرنسا مثل تونس والمغرب، فيما تفوّقت عليها دول الغرب مثل مالي وبوركينا فاسو، فأنهت العلاقة العسكرية والسياسية بيوم واحد، وطردت البعثات الدبلوماسية، ورفعت شعوبها العلم الروسي في شوارع عواصمهم، فاستشعرت باريس خطر الخروج المهين بعد عقود من... استغلال ثروات تلك البلدان من ذهبٍ وماس ويورانيوم وخام الحديد. ولكن هل عرف الأفارقة كيف يديرون أمور مواردهم وسياساتهم، ام لجأُوا الى خيار آخر يبدو لهم المنقذ من ظلم وجُور الأوروبيين، الذين بنوا إمبراطوريتهم الاقتصاديّة على حساب فقرهم وجوعهم وعدم مواكبة التقدّم والازدهار؟.

بعد التعمّق في سيرة السياسات الأفريقية، بدا واضحاً ان شعوب تلك القارة يتنقلون بين المكائد منذ طلوع شمسهم وحتى المغيب، ويدفعون الى جانب عرقهم ثروات طبيعية وهبَها الله لهم، ولكنْ حرمَهم قيادات حكيمة تدير شؤونهم وتجعلهم في مصاف الدول المتقدمة مثل الإمارات وقطر وسنغافورة.

ولم يعلم الأفارقة المحتفلون اليوم بدخول روسيا والصين عليهم أنّ لهذا الدخول ثمناً باهظاً سيدفعونه لا محالة، ومثال الاستثمارات الصينية في دولة جيبوتي خيرُ دليل على ذلك. فبعد ان أنفقت 14 ملياراً عليها في بناء جسور وملاعب ومبانٍ رسمية وأنابيب غاز تحت مسمّى بناء طريق الحرير، وجدتْ جيبوتي نفسَها رازحةً تحت ديون للصين بقيمة 70 مليار$، فاضطرت الى وهب مينائها للشركات الصينية التي تعثّرت في سداد القروض الممنوحة لها.

أما لروسيا فحكاية أخرى، هذه العظمى التي تضع في أولويات أهدافها جيشها ونفوذه العسكري. فهي هللت للانقلابات العسكريّة مؤخراً ضد الغرب، وتحت مسمّى مقاومة الأيديولوجية الاستعماريّة وبناء المدارس والتعاون الثقافي، بدأت تسنُّ مشاريع استثمارية غير واضحة النتائج حتى اليوم، وتنظّم قمة روسية-أفريقية في تموز المقبل في سان بطرسبورغ على غرار القمة الأميركية-الأفريقية التي عُقدت في نهاية العام المنصرم.

وما يدور من عمليات استيلاء ممنهجة على الذهب في أفريقيا الوسطى من قِبَل الروس وقيادة "فاغنر" ليس إلا صورةً طبق الأصل عن أعمال الاستعمار الفرنسي السابق. ويتحدث السكان بحرقة عن التعدي على ممتلكاتهم وحرق منازلهم واغتصاب نسائهم، ووصول روسيا غير المقيّد الى مناجم الذهب والأخشاب في هذه البلاد؛ ففاغنر أصبحت تمتلك امتياز تعدين للذهب لمدة 25 عاماً تحت غطاء شركة Midas Resources مع سيطرة تامة لروسيا على الملاحة الجويّة للبلاد.

قاسم واحد مشترك يقلق الدول العظمى هو إعادة انتشار المسلحين والهاربين من حكوماتهم الأصليّة والإسلاميين الراديكاليين إلى القارة السمراء. فمن ينصب لأفريقيا فخاً لتدميرها ولمصحلة من؟.

للتوغّل أدواتٌ تبدأ ثقافية بالقلم والكتاب وتمرّ بالرصاص والفولاذ لتنتهي بالذهب والنفط. ويعيش الأفارقة اليوم صراعاً بين التطوّر والأمل ببناء دول حديثة. وما بين اوروبا والولايات المتحدة بالأمس، الى الصين وروسيا اليوم، تنتظر شعوب القارة بترقّب تدشين اتفاقيات التعاون والزيارات المكوكيّة لزعماء الدول الكبرى، علّها تفهم هل سيصبُّ هذا التغيير في مصلحتها. والواقع أكّد انّ روسيا والصين نجحتا في طرد الدول الأوروبيّة من أفريقيا، لكن مستقبلها لم يؤكّد إن كان لشعوب هذه القارّة مستقبل واعد غير الجوع والعوز... والتخلّف.

الأمم المتحدة-نيويورك