فقدت أبرشية جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس(جبل لبنان), قدس المتقدم في الكهنة الأب جهاد أبو مراد، خادم رعية كنيسة القدّيس أنطونيوس الكبير في منطقة فرن الشباك، بعد أن تعثّرت صحّته في الآونة الأخيرة.

يقول الرّب يسوع في إنجيل يوحنا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ"(يو 12: 26).

مثلما قدّم السيد مفهومًا جديدًا عن الموت والحياة من خلال صلبه وموته وقيامته، يقدّم لنا أيضًا مفهومًا جديدًا عن الخدمة. فالخدمة ليست غيرة مجرّدة للعمل لحساب الآخرين، إنما هي اتحاد مع الخادم الحقيقي الفريد، يسوع المسيح، ومرافقته واتّباعه في طريق جتسماني.

نال الأب جهاد ابو مراد سرّ الكهنوت في مرحلة متقدمة من العمر، لكنّه عرف التكّريس الكنسيّ منذ مطلع صباه، وتحديدًا منذ أن انخرط في صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في بلدته وادي شحرور. وكان إلى جانب صاحب السيادة المطران جورج خضر، كخادم أمين، رافقه لسنوات طويلة في إدارة شؤون وشجون الأبرشيّة، ولا سيما في حقبات صعبة مرّت على هذا الجبل.

امتاز أبونا جهاد بالصوت الرخيم، فكنّا نطرب عندما يرتّل، وقد اتقن الموسيقى البيزنطية بشكل كبير، كما اللغة اليونانية، وقد غرف من معينها الشيء الكثير، وسخّرها لمصلحة الليتورجيا الكنسيةّ، وتحديدًا أصول الخدمة المعروفة بالتيبيكون.

اختاره الله أن ينتقل إلى أخداره السماويّة يوم خميس الصعود الإلهي، ليصعد معه إلى ملكوته العلوي، ويلتحق بأجواق الملائكة، كي يرتّلوا معًا التسابيح السماوية، ويمجّدوا الرّب القائم من بين الأموات.

شخصيًّا، كلّما سمعت ترتيلة "إن موسى العظيم"، أتذكر أن سيدنا جورج خضر، كان يأبى أن يختم اجتماع الكهنة، قبل أن يرتّل أبونا جهاد هذه الترتيلة العظيمة بصوته الرخيم.

على الرغم من شخصيّة أبونا جهاد الصلبة (والعنيدة) كان يستمع للآخر، وبتواضع كان يسأل عن أمور لا يعرفها، ويستفسر ويجادل بالمنطق، ويواجه في سبيل الحقيقة، حتى ولو اختلفت معه في أمور كثيرة، إنّما الحق يقال، لا يمكن إلا أن تحترمه، وتقدّر تاريخه وعمله، في سبيل كنيسته ونشر الكلمة.

منذ صباه أراد أبونا جهاد أن يخدم السيّد المسيح ويكرز به، ولذلك تبعه، وتتلمذ له وتعلّم منه وأطاعه، وسلك معه طريق الصلب والجلجلة، لكي يقوم معه اليوم حاملًا ثمارًا كثيرة. ترك هذا الخادم ملذّات العالم، وتطلع إلى السعادة الأبدية. ليتّحد مع الأبدي، علّه اليوم ينال مجدًا أبديًا يهبه له الآب القدوس نفسه.

لقد جاهدت يا جهاد الجهاد الحسن، "أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْت الإِيمَانَ"(2 تي 4: 7).

يليق بك أن تفرح اليوم يا أبونا جهاد، لأنك جَاهَدْتُ وأكملت السعي، ليس للفخر بل لتعزية الآخرين. ومن يجاهد لأجل المسيح يعطيه المسيح إكليل الظفر. ها قد أكملت السعي حتى آخر رمق لنشر الإنجيل. كنت تلميذًا للمسيح في حفظ الإيمان، ولذلك لم تتوانَ يومًا عن مواجهة كلّ محاولات الهراطقة الذين حاولوا التشويش على الإيمان المستقيم، لذا ستسمع اليوم من فم المخلّص: "نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ"(متى 25: 23).